التاريخ الأميركي.. قتل وعنصرية وإبادة جماعية (4) ـ إعداد: أحمد شحادة

الثلاثاء 07 تموز , 2020 12:38 توقيت بيروت أقلام الثبات

صيد الزنوج من شواطىء أفريقيا واسترقاقهم

أقلام الثبات

لم يكتف المستوطن الاوروبي الأبيض بالاستيطان في القارة الجديدة واحتلالها وابادة الملايين من سكان القارة الأصليين (الهنود الحمر)،بل امتدت غزواته الى قارة إفريقيا ، حيث كان يصطاد على الشواطىء السمراء البشر في وحشية لم يشهد التاريخ مثيلا لها ، لقد اعتاد العالم كله على تلقي النصائح والتوجيهات من اميركا، في القضـايا التـي تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، باعتبارها الدولة الرائدة في العـالم فـي هـذين المجالين. بل أن كثيـراً مـن الأمـريكيين يحلـو لهـم وصـف بلادهـم بــ (مهـد الحريـات والديمقراطيـة والحقـوق الإنسـانية) وهـو وصـف  لا يمكن أن ينسحب على أميركا بشكل عام والـدليل مـا تبـوح بـه وقائع التاريخ القريب التي يعرفها الأمريكان أكثر من غيرهم. فتاريخ اميركا بنـى على مآسي إنسانية يشيب لها الولدان، بداية من الاستيلاء على أراضى الهنـود الحمـر بالقوة، ثم دحرهم بدلاً مـن شـكرهم أو حتـى التعـايش السـلمي معهـم، ثـم بعـد أن انتهوا منهم تحولوا إلى أفريقيا، للبحث عن عبيد يصـلحون لهـم أراضـيهم، ويمهـدون سبل الحياة المرفهـة لهـم .

إن المتتبــع لتــاريخ الولايــات المتحــدة لــن ينــدهش بكــل تأكيــد مــن العربــدة الأميركية الحالية، ومن أسلوب القرصنة الذي تنتهجه لنهب مقدرات الشـعوب الأخـرى باسم محاربة الإ رهاب. ففي دراسة لها، ذكرت (اليزابيت مارتينيه )، أسـتاذة الدراسـات العرقيــة فــي جامعــة كاليفورنيــا، وناشــطة فــي مجــال حقــوق الإنســان، إن الولايــات المتحدة الأميركية كأمة بنيت على ثلاث حقائق أساسية كلها، تؤكد أن فوقيـة الرجـل الأبيض، كفكرة عنصرية هي الأساس الـذي شـكل الدولـة الأميركيـة وهـذه الحقـائق : الحقيقة الأولـى وهـي : إن الولايـات المتحـدة الأمريكيـة دولـة وجـدت بـالاحتلال العسكري، الـذي تـم علـى مراحـل عـدة:

المرحلـة الأولـى تمثلـت بـالاحتلال الأوروبـي للأراضي، التي كان يقطنها سكانها الأصليين، حيث كان يقطن أميركا قبل الغزو أكثر من ١٠٠مليون شخص، ومع نهاية حروب الهنود الحمر، كـان هنـاك ٢٥٠ ألـف نسـمه فقط مـن السـكان الأصـليين، ويطلـق (أنيـت جـيمس ) علـى هـذه الحـروب فـي كتابـه (الدولة الأميركية الأم ) حروب الابادة الجماعية، حيث اعتبر أن هذه الحروب هـي التـي مهدت لبناء الولايات المتحدة الأمريكية، بمعنى أن الأمة الأمريكية بنيت أساسـاً علـى ابادة السكان المحليين واغتصاب أراضيهم .

الحقيقـة الثانيـة تقـول: إن الأمــة الأمريكيــة لـم تكـن لتتطـور اقتصــادياً دون اسـتعباد العمالـة الإفريقيـة، فعنـدما بـدأت الزراعـة والصـناعة بالازدهـار فـي العهـد الاستعماري، ظهرت الحاجة لعدد كبيـر مـن العمـال ، فكـان الحـل هـو اسـتقدام أعـداد كبيرة مـن العمالـة الإفريقيـة كعبيـد لـدعم القـوة العاملـة الضـرورية، لإحـداث النمـو الاقتصادي في الولايات المتحدة الأميركية .

أما العامل الثالث في بناء الأمة الأمريكية، وتبعاً (لإليزابيـت مارتينيـه ) فيتمثـل في قيام الولايات المتحدة بالاستيلا ء على نصف المكسيك بالحرب، الأمـر الـذي مكـن الولايات المتحدة من التوسـع إلـى المحـيط الهـادي، وبالتـالي فـتح بـاب التجـارة علـى مصراعيه مع آسيا، وفتح الأسواق لتصدير بضائع واستيراد بضائع لبيعها في الولايات المتحدة الأمريكية، وأطلقت الولايات المتحدة على الجـزء الـذي أخذتـه مـن المكسـيك اسم تكساس، عام ١٨٣٦م، ومن ثم حولت هذا الجزء إلى ولايـة عـام ١٨٤٥. م وفـى العام الثالث، اجتاحت الولايات المتحدة المكسيك ثانيـة واغتصـبت جـزءاً مـن أراضـيها بمعاهدة عقدت عام ١٨٤٨. م وفي عام ١٨٥٣ ،حصـلت الولايـات المتحـدة علـى جـزء ثالث هو اريزونا . وبذلك تكون قد استكملت الحدود الإقليمية لما يعرف الآن بالولايـات المتحدة الأميركية . هذه كانـت الـدعائم الأساسـية التـي بنيـت عليهـا الأمـة الأميريكيـة، وفـي عـام ١٨٩٨م أخـذت خطـوة إضـافية تمثلـت فـي اغتصـاب الفلبـين، وبورتوريكـو، وجـوام، وكوبا، عبر الحروب الأسبانية الأميركية، ومنذ ذلـك الحـين بقيـت جميـع هـذه الـدول، باســتثناء كوبــا مســتعمرات أمريكيــة تــوفر للدولــة الأمريكيــة مـوارد الثــروة والقــوة العسكرية. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد اسـتكملت مرحلـة الاحـتلال والاسـتعمار المباشرين اللذين ابتدأتها بالسرقة الدموية للأراضي الأمريكية الأصلية قبـل خمسـة    قرون(1) .

وبعد ان عرفنا بعض التفاصيل عن الاجرام الذي قاده وقام به كريستوف كولمبوس ، والافاق امريكو فسبوتشي الذي اطلق اسمه على القارة الجديدة .كانت غزوات صيد البشر على الشواطئ الافريقية التي يندى لها جبين الانسانية ، وعكس مرارتها مسلسل اميركي تحت عنوان "الجذور" عرض في سبيعينيات القرن الماضي، وهو مأخوذ عن رواية الكاتب الأميركي الزنجي اليكس هيلي التي تحمل نفس الأسم وفيها يروي تفاصيل تستند إلى وقائع  12 سنة قضاها متنقلا بين أفريقيا موطن أجداده القدامى وبين سجلات المدن الامريكية والبريطانية. بعد أن وطئت أقدام جده الأكبر كونتا كينتا سواحل اميركا سنة 1776 عبدا إصطاده البيض، في موطنه أفريقيا كما تُصطاد الحيوانات وجيىء  به مع آخرين في رحلة طويلة مرهقة مات خلالها كثيرون عبر بحر هائج لم يرَ مثيلا له من قبل استغرقت أكثر من أربعة أشهر ليباع هو وأمثاله في مزاد علني بعد أن تدهن أجسامهم لكي تلمع مثل أخشاب الابنوس الجيد. ولتبدأ مأساته على أرض الواقع دون بارقة أمل. كان اليكس هيلي قد انضوى تحت راية الداعية الاسلامي الزنجي مالكولم اكس وكتب عن دعوته. ومالكولم اكس رجل عاش حياة الفساد والمخدرات وما يجري تحت السطح من تفسخ في مجتمع يدعي الحضارة ، فلما عرف الاسلام إتخذه دينا له والتزم بتعاليمه وأصبح من أكبر وأشهر الدعاة له قبل أن تغتاله يد الغدر!وبعد مقتل مالكولم أكس ،انزوى هيلي وكرس حياته لكتابة رواية الجذور. كان اليكس هيلي يسمع من جدته حكاية تتكرر سمعتها هي أيضاً متوارثة من جداته تتحدث عن الافريقي الاسود الذي يدعى كونتا كينتي ، الذي دخل المدرسة وحفظ سورا من القرآن الكريم في قريته جوفيور ، وتعلم فنون المصارعة والقنص والقتال أثناء فترة التدريب على الرجولة وكان ينوي الحج إلى مكة وزيارة مملكة مالي. وهو فتى يافع ذهب إلى الغابة المحيطة بقريته القريبة من نهر كامبي بولونجو للبحث عن جذع شجرة يصلح لأن يكون طبلة خاصة به ، وخلال بحثه ذاك وجد نفسه محاطا بأربعة رجال أشداء اثنان منهم من السود الخونة واثنان من التوبوب البيض لهم خبرة واسعة في الايقاع بالبشر في شراك حبائلهم ، وبالرغم من قوته الجسدية وطوله الفارع وخبرته في القتال كرجل ينتمي إلى قبيلة المندينكة المحاربة ، وحيلته الواسعة خاصة في اصطياد الحيوانات والطيور كالدجاج البري وبعد أن فقأ عين أحدهم إلا أنه وجد نفسه وقد أُصطيد من قبل أولئك الأربعة كما تصطاد الحيوانات بعد أن ضُرب على رأسه بعصا غليظة أفقدته الوعي ، ومن ثم أُقتيد بعيدا إلى جهة يجهلها تماما. تتبع اليكس هيلي خيوط الحكاية منذ بدايتها وبدأ بحثه المضني باقاربه ليستخلص ما تبقى من أصل الحكاية المتوارثة ، ثم ليكمل بحثه بين سجلات السفن التي كانت تحمل الزنوج من أفريقيا فضلا عن وثائق المتاحف والصحف والكتب والمكتبات وغيرها، بل وذهب حتى إلى الافارقة الذين يعملون في هيئة الامم المتحدة عله يجد عندهم ما يعينه في معرفة الحقيقة ، وهو الامر الذي كان يثير استغرابهم. وعندما التقى هيلي بأحد أساتذة التاريخ الافريقي القديم رجح أن تكون قرية أجداده جوفيور في جامبيا وذلك لوجود نهر كامبي بولونجو فيها. وسرعان ما غادر هيلي إلى هناك ليجد سجلات تؤكد بحثه ولكنها مخزونة في ذاكرة شيوخ نذروا أنفسهم لحفظ أسماء الأسر والافراد وتاريخ المنطقة منذ عهود قديمة. عثر هيلي على رجل شيخ منهم قص عليه حكاية جده الأكبر كونتا امورو كينتي شفاهاً وكأنه يقرأها من كتاب وأخبره أن كونتا قد اختفى منذ سنة 1776. تابع هيلي البحث عن السفن المبحرة من جامبيا في تلك الفترة من خلال وثائق السفن الانجليزية الاكثر نشاطا في تجارة العبيد في ذلك الوقت بعد أن غادر إلى بريطانيا ، وعثر على ما يؤكد وجود جده الاكبر على ظهر السفينة لورد لونجييه القادمة من جامبيا وهو ما أكدته الصحافة الامريكية أيضا في إعلاناتها خلال تلك الفترة من وصول السفينة وعلى متنها حمولة منوعة من بينها 98 زنجيا من أصل 140 كانوا على متنها عند بداية الرحلة ، بعد أن مات خلال الرحلة الشاقة أكثر من 40 زنجيا ألقيت أجسادهم طعاما للاسماك. وبقى 98 زنجيا فقط على قيد الحياة من أجود أصناف البشر ومن بينهم جده كونتا كينتي وقد كووا بالنار على ظهورهم بعلامة «LL» رمز السفينة لورد لونجييه! استكمل هيلي معلوماته وشرع في كتابة قصة أجداده التي بدأت باختطاف جده المسلم كونتا كينتا قبل ما يزيد على 200 سنة. وليكتب أروع الروايات الخالدة التي تستند إلى الواقع والوثائق عبرأجيال سبعة توارثت عبودية مفروضة عليها من قبل الرجل الابيض الذي جاء إلى أمريكا من العديد من بقاع الدنيا وفي مطلعها أوروبا، حيث جاء بداية هربا من الاضطهاد الديني والسياسي ، وليبدأ حياته بإبادة السكان الاصليين من الهنود الحمر ثم ليجلب أكثر من 10 ملايين أفريقي انتزعهم من أحضان أهاليهم عنوة ليستعبدهم بطريقة وحشية لم تعرف لها الانسانية مثيلا إلى اليوم وليستغلهم في خدمته وفي زراعة المحاصيل وأهمها التبغ والارز والذرة والقمح وأخيرا القطن وفي شق الطرق وبناء السكك وغيرها من الأعمال الشاقة في زمن امتد أكثر من ثلاثة قرون متتالية ، وفي ظل معاملة وحشية تصل إلى بتر أطرافهم وقتلهم واغتصاب نسائهم حتى نشأ عن ذلك جيل يعرف بالملاتو وهي كلمة اسبانية معناها الخليط بلغ تعدادهم نصف مليون إنسان مع نشوب الحرب الاهلية الامريكية سنة 1861. والرواية التي جاءت في أكثر من 700 صفحة ، نال بها كاتبها جائزة بوليتزر سنة 1977 ودرّت عليه ثروة كبيرة وأصبح من أصحاب الملايين بعد أن وزع منها أكثر من 500 مليون نسخة في أكثر من 30 لغة عالمية حية ومنها اللغة العربية. كما حولت إلى فيلم سينمائي ومسلسل تلفزيوني يعرض في 12 ساعة شاهده مئات الملايين من البشر. واشتهرت قرية جوفيور وأصبحت مركزا سياحيا يزوره آلاف السياح سنويا تأثرا بالرواية. وعندما زار اليكس هيلي قريته في أدغال أفريقيا بعد نشر الرواية بصحبة أخويه ومجموعة من أفراد أسرته وجد عشرات الصحافيين والمصوريين إلى جانب أبناء القرية الذين لا يزيد عددهم على 70 شخصا في استقباله. وطار هيلي فرحا عندما أخبرته فتاة من القرية أن اسمها كونتا وقفز في الهواء وهو يردد: اسم جدي.. اسم جدي السابع! وجاء في الرواية التي نؤكد أنها تستند إلى الواقع أن كونتا كينتي قد بيع بـ 850 دولارا وهو مبلغ لم يصله زنجي آخر من قبل ، إشتراه مزارع يدعى مستر جون وولر وكان يأمل منه استثمارا جيدا نظرا لما كان يتمتع به من حيوية وضخامة بادية. وادرك الفتى أنه قد حيل بينه وبين موطنه وأهله إلى الأبد !وأنهم هناك في موطنه سيتحدثون عنه كما يتحدثون عن الاموات ، وهو الامر الذي عهده عند اختفاء الآخرين من قبل. ومع كل ذلك كانت نفسه تنزع إلى الهرب حتى لو كان الهرب نحو المجهول! قالوا له إن اسمه الجديد هو توبي ، وعندما استوعب ذلك رفض الاسم الجديد وهاج ، قابل رفضه ذاك إصرار من سادته الجدد أن اسمه توبي وعذب طويلا وبقسوة أمام عناده الذي لم يكن يجدي نفعاً ، وكانت أول تجربة على الارض الجديدة يخسرها في حياته التي لم يعد لها أي معنى..! ثم هرب وأعيد إلى سيده وتكرر الهرب وفي المرة الرابعة لم يكتفوا بجلده المؤلم ، هذه المرة قطعوا له نصف قدمه اليمنى بالفأس ليقضي بقية حياته معاقا لا يقوى على الهرب. ثم باعه جون إلى أخيه الدكتور وليم وولر. تعرف كونتا على بيل التي كانت تعتني بقدمه وتقوم على خدمته وتدربه على المشي بمساعدة عكازين. وتعلم لغة السادة اللغة الانجليزية وبعد 20 سنة تزوج من بيل التي تكبره قليلا ، وسكنت نفسه إلى هذه المرأة التي أحبته وأحبها وأنجبت له فتاة سُميت كيزي بعد أن أمضى عمرا مديدا ملتزما بالطهر والعفة وتجنب شرب الخمر وأكل لحم الخنزير كما يأمره دينه. استمرت عبودية أبناء كونتا إلى حياة الحفيد توم موراي وزوجته أيرين وأخوته وأولادهم حيث نالوا حريتهم بعد الحرب الأهلية الأمريكية التي استمرت 4 سنوات من 1861-1865. بعد أن وقّع الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن وثيقة تحرير العبيد. وبعد موت جدته   عزم هيلي على كتابة روايته فوجد التشجيع من أقاربه ، قالت له إبنة خالته العجوز والوحيدة التي بقيت على قيد الحياة 80 سنة وبامكانها سرد الرواية: إستمر في بحثك الدؤوب أيها الولد.. إن جدتك الحبيبة وكلهم جميعا هناك في السموات يرقبون عملك المجيد(2).

(يتبع)  

1_ اميركا _  تاريخ من الغزو والارهاب _ يوسف العاصي طويل _ صوت القلم العربي _ طبعة ثانية 2010 _ مصر 

2 _ "الجذور" _ تعيد اليكس هيلي إلى افريقيا_ البيان _3اذار 2002

 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل