سلامٌ لِرُوحِه .. والسلامُ على أنطاكيا وسائر المشرق ـ أمين أبو راشد

الأربعاء 15 أيار , 2019 09:12 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

نقِفُ بحضرة جُثمان البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير المُسجَّى في بكركي، وبقدر إيماننا بأن الموت حق، ننطق بالحقّ، عسانا نُنصِف حيث يجِب، شخصية دينية ودنيوية، كانت وستبقى كما كل الشخصيات، مُثيرة للجدل.

نشهد للبطريرك الراحل عِلمَهُ وثقافته، وأنه رجُل المؤسسات المارونية الأبرز في تاريخ بكركي، الليوترجيَّة منها والإنسانية، من تطوير رتبة القداس، الى تأسيس الصندوق الإجتماعي الماروني، والصندوق التعاضدي الإجتماعي الصحِّي، والمركز الماروني للتوثيق والأبحاث، ومؤسسات وجمعيات دينية وخيرية عديدة، ومن بينها مؤسسة تحمل إسمه، لكن أعظم ما حقَّقه على المستوى الإنساني الإجتماعي، أنه ألغى نظام الشراكة وملَّك الشركاء بيوتهم في الديمان ووادي قنوبين وبلوزا وسرعل، وله الفضل في إطلاق بعض المشاريع الإسكانية. وسواء كنا مع سياسته الوطنية أو ضدَّها، نعترف أمامه للمرة الأخيرة بأوجاع جلجلتنا في هذا الشرق، ونختصر ما في الوجدان من رغبةٍ في النزف عن الوضع المسيحي الحالي.

نرتقي فوق السجالات الجدلية السطحية، السياسية منها والزواربية الحزبية، ونقول، أن شخص البطريرك، كائناً من كان، ليس وحده كافياً لتحقيق الإنجازات، لأن لكل زمانٍ ظروفه.

البطريرك الياس الحويك رَهَن صليبه الذهبي لشراء القمح درءاً للمجاعة خلال الحرب العالمية الأولى، وشَهِدَ عهده ولادة دولة لبنان الكبير، والبطريرك أنطوان عريضة تمَّت خلال ولايته صياغة الميثاق الوطني الذي كرَّس رئاسة الجمهورية للموارنة.

وإذا كان عهد البطريرك الكاردينال بولس المعوشي قد أتَّسم بالإستقرار، فإن عهد  الكاردينال الثاني أنطون خريش قد شهِد الحرب الأهلية اللبنانية وبداية تدهور الوضع المسيحي والماروني بشكلٍ خاص، وورِث الكاردينال الثالث نصرالله صفير تركة هزيمة المسيحيين عسكرياً، والتي أدَّت الى اتفاق الطائف عام 1989، وبات يُنعَت بـ "أبي الطائف"، واختبأ تحت عباءته مَن أنجزوا الطائف من زعماء ميليشيات ونواب مسيحيين، لكن خطأ البطريرك صفير - رحمه الله - أنه جَاهرَ بإنجاز الطائف، وفَاخَر الى حدود الإرتماء في أحضان الشركاء من جماعة "الحريرية السياسية"، وبارك حكوماتهم الفاسدة، وارتضى أن يكون غطاءهم المعنوي المسيحي، ونال البَرَكة من "مملكة الطائف" وطاف في رِحَاب سياستها، واستعدى لأجلها شريحةً واسعة من اللبنانيين، سواء من المسيحيين، أو من المسلمين الذين حققوا بمقاومتهم تحرير الوطن عام 2000، وكان حَرِيَّاً به ربما، أن يُبارك هذا الإنجاز الوطني العظيم والإستقلال الثاني الحقيقي ليكون بِمَصاف الحويك وعريضة، لكن حلقة ما كانت تُسمَّى 14 آذار أخذته الى الضفَّة الأخرى حيث يتمترس كل "يهود الداخل"، وخلعوا عليه لقب "رجل الإستقلال الثاني" عندما نسبوا إليه الفضل في الإنسحاب السوري، هذا الإنسحاب الذي يتبجَّح كل فريق لبناني أنه هو صاحب الفضل فيه.

ولأن الأوطان لا تَقِف عند أشخاص مهما علا شأنهم، فإننا إذ نودِّع الكاردينال صفير، الذي تولَّى رعاية صرح بكركي على مدى ربع قرن، 1986 – 2011، نُذكِّر من يُسمُّون أنفسهم من جماعته دون سواهم، بالرقم 2011، علَّهم يفقهون ماذ حصل منذ العام 2011، وماذا بات يعني لَقَب "بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق" وماذا يعني مجد لبنان، الذي "أُعطيَ" لبكركي سابقاً عن جدارة، وبات اليوم بالتراضي المسيحي الإسلامي.

في العام 2011 بدأت حرب التكفيريين ضمن "الربيع العربي" الملعون، وبدأ مَن نجا من مسيحيي سائر المشرق بالهُجرة، ومَن صَمَد منهم في بيوتهم وأرزاقهم وأديرتهم وكنائسهم في  سوريا - التي خاصمها البطريرك صفير وجماعته- هذا الصمود، يعود الفضل فيه الى أخوة مسلمين، سوريين كانوا أم لبنانيين مُقاومين، خاصة في معلولا وصيدنايا وحلب، ولذلك، لن يستطيع أي بطريرك ماروني بعد العام 2011 أن ينسِب لنفسه فعلياً لقب بطريرك سائر المشرق، لأن سائر المشرق قد التحق بأنطاكيا التي لم يعرفها ولم يسكنها أي بطريرك ماروني، وأين هُم الموارنة والمسيحيون اليوم في المشرق إذا لم يرعَ البطريرك الماروني كائناً من كان شؤونهم والقيام بزيارتهم؟ و"سوريا مار مارون" هي الأولَى بالزيارة، بدل الحجّ الى السعودية كما فعل البطريرك الراعي، وبضعة آلاف ماروني قبرصي هم أوروبيون، وبات لقب بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق كما لقب "مطران مكَّة".

أما مجد لبنان، فهو كما أسلفنا، قد عاد الى بكركي بالتراضي، تعويضاً من مُسلِمي لبنان على خسارة بكركي رعاياها الذين هجروا سائر المشرق بعد أنطاكيا بقُرون، والمجد الذي تم تجديده لبكركي هو مصلحة لبنانية إسلامية، قبل أن تكون مسيحية، والكلّ سيقف على خاطر بكركي في خساراتها، لأن الثقافة الإسلامية للمجتمع اللبناني مُغايرة لكل البِدَع "الإسلاموية الشيطانية" التي نشأت على يد أحفاد محمد بن عبد الوهاب وحسن البنَّا، ومن يقول خلاف ذلك عن مجد بكركي من المسيحيين اللبنانيين يكون من "لاعِقيّ الريالات" أو من مُدَّعيّ البطولات الفارغة، وما أكثر العقول الفارغة لقطَّافي الفُرص والمواسم الخائبة التي سنشهدها في جنازة البطريرك...  


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل