أقلام الثبات
تسرَّب أخيراً نص الكتاب المرفوع من القاضية المستقيلة ساندرا المهتار إلى مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 5 آب 2025، وتناوله المحامي الدكتور جاد طعمة في مقالته بتاريخ 7 كانون الأول الجاري، بعنوان مستوحى من نصّ الكتاب نفسه: "كيف تحوَّل معقل العدل إلى هيكل تتهاوى جدرانه"، والدكتور طعمة معروف كعضو فاعل في مجال المبادرات القانونية لمكافحة الفساد والدفاع عن الحقوق العامة.
يقول الدكتور طعمة إن كتاب استقالة القاضية المهتار أصبح بمتناول الجمهور العريض، بعد الموافقة على الاستقالة، وهو رسالة وجدانية من هذه القاضية في تعبيرها عن مشاعرها تجاه السلطة القضائية التي كانت جزءًا منها، وتمّ دعم مضمون الكتاب/ الرسالة عبر بيان تضمّن صدى وجدانياً موازٍ من نادي قضاة لبنان الذي يضم قضاة عاملين، في مؤشرات ذات دلالة على وجود خلل حقيقي لا يمكن معالجته بالإنكار أو كمّ الأفواه، وتصريحات جريئة بالغة الأهمية كونها لم تُكتب بالحبر بل بسيل من الألم الجماعي الصامت.
ويضيف د. طعمة: "عندما تختار قاضية أمضت ربع قرن في خدمة مرفق العدالة أن تطوي آخر صفحات قصتها مع القضاء، لا يكون القرار مجرد استقالة وظيفية، خاصة وأن كتابها حمل نداءً أخلاقياً لحماية سلطة يُفترض أن تكون الحارس الأساسي للحقوق، وركناً من أركان الدولة اللبنانية، والكتاب لم يكن طلب إنهاء خدمات عادياً، بل تضمن تشريحاً لجسد القضاء المعتلّ الذي ينزف يوميًا ويخسر النخبة من كفاءاته ويئنّ تحت وطأة الإهمال المتعمّد وفرض الاستتباع السياسي".
وٰتقول القاضية في كتاب استقالتها؛ "هذا القلب مُتعَبٌ وقد أتعبني، وهذا القلب سقيمٌ وقد أرهقني"، وبهذه الكلمات الشعرية التي تليق بقاضية عاشت مع العدالة علاقةَ حبّ ووفاء، تختصر المهتار معاناة جيل كامل من القضاة، الذين دخلوا السلك القضائي بحلم تحقيق إصلاح المجتمع، فإذا بهم ضحايا نظام يأكل أبناءه، لا سيما أولئك الذين لا يرضخون لقواعد اللعبة.
وفي هذا الكتاب الرسمي تحوّلت اللغة القانونية الجافة، إلى خطاب حقوقيّ ثوريّ، لم تطلب المهتار فيه إنهاء خدماتها فحسب، بل سجّلت "اعتراضاً تاريخياً عددت فيه الأسباب التي تجعل القضاء "هيكلاً تتهاوى جدرانه"، حسب تعبيرها، لافتة إلى وجود عدة قوانين مجتزأة يتم تفصيلها داخل المجلس النيابي على قياس المصالح الضيّقة لأهل المنظومة وأتباعهم، في إشارة واضحة إلى حالة جديرة بالتوقف أمامها وهي "تسييس التشريع" الذي لطالما شكّل غطاء لما يعرف بـ"الفساد المُقونَن".
وجاءت الجزئية الثانية من كتاب القاضية المهتار أكثر خطورة؛ حول فرض استتباع القضاة، مع تأكيدها، أنّ "القاضي أصبح أداة في يد السلطة السياسية"، وهو دليل إضافي على انعدام الاستقلالية. ولم يُغفل الكتاب ذكر انهيار البنى التحتية في أبنية القضاء الآيلة للسقوط، مع التنبيه إلى غياب المساواة بين القضاة، وتهميش الكفاءات، ومعاقبة النزيهين لمجرد رفضهم المحسوبية، وان مستشاري القصر الجمهوري الذين تلقّوا وابلاً من الاتصالات والضغوطات كانت لهم وجهة نظر أخرى.
ولسنا هنا بوارد تحميل دوائر القصر الجمهوري وحدها مسؤولية ما آلت إليه الأمور في الدولة المنكوبة، لأن ساكن القصر ورِث اهتراءً متوارثاً من عهود سابقة، لم تعرفه حتى أدنى حكومات العالم الثالث، وإذا كان القضاء اللبناني هذا حاله، على لسان قاضية شريفة ابنة أوادم، فكيف بباقي مرافق الدولة المدنية منها والعسكرية، التي سبق وطالت الشائعات الصحيحة عن الفساد المئات من موظفيها في ما يرتبط بالإثراء غير المشروع لصغار الموظفين ولا أحد يسألهم من أين لكم هذا؟!
ومع حفظ الاحترام والتقدير لأصحاب الضمائر من موظفي القطاع العام، مدنيين كانوا أم عسكريين، نتساءل: كيف لموظف من فئة متواضعة أن يمتلك الدور والقصور والأراضي؟ وكيف لعسكري لا يحمل نجوماً على كتفيه أن يشتري السيارات الفاخرة والبيوت الفخمة؟ وكيف لعسكري يحمل نجوماً على كتفيه أن يُشغِّل عناصر سَرِيَّة تابعة له لخدمة منزله، بل خداماً تحت تصرف "المدام" وأولادها وأهلها، في أعمال مذلَّة لا تليق بالبذلة العسكرية، تبدأ من سائق وتنتهي بخدمات الدليفري ونقل الزبالة؟!
منذ نشوء قانون "من أين لك هذا" وإيداعه في الأدراج، وهذه الدولة سائرة نحو الانهيار، ونكتفي هنا بذكر مثال عن الوقاحة في النهب، عندما سُئل مسؤول كبير في الدولة اللبنانية: لماذا لا تصرِّح عن أملاكك للدولة، فأجاب: عندما يصرِّح غيري عن "ما لا يملك" في هذه الدولة، عندها أقوم بالتصريح عن أملاكي.
أما ونحن على أبواب انتخابات نيابية في ربيع العام 2026، ووسط الجدل الإعلامي حول رغبة البعض تأجيلها، والإصرار على إجرائها من البعض الآخر، تستوقفنا جزئية من كتاب استقالة القاضية المهتار في قولها: "تسييس التشريع" الذي لطالما شكّل غطاء لما يعرف بـ"الفساد المُقونَن".
"تسيس التشريع"، يعني أن أدراج المجلس النيابي "تعتقل" ما لا ترغب به من تشريعات، وتمنع تشريعات عن بلوغ أبواب القضاء عبر الكتل البرلمانية الفاسدة، وتحكُم سير عمل هذا القضاء تحت مسمَّى "استقلالية السلطة التشريعية"، أما "استقلالية السلطة القضائية" فعليها السلام وعلى الدنيا السلام، متى يكون رؤساء الأجهزة والمراكز القضائية ومعظم القضاة، مُعيَّنين بأوامر من أصحاب السلطة السياسية وسلاطين هذا الزمن القاتم.
دولة فساد متوارث، تسرد حكايتها قاضية نزيهة ومواطنة لبنانية صالحة من بيت أوادم، لم تتقدم باستقالتها بسبب الراتب، ولا بسبب ضغوط العمل، ولا لأنها لا تتشرف بمركز يطمح إليه الكثيرون من الحقوقيين ولكن، قررت الاستقالة كي لا تكون شاهدة زور من تحت قوس العدالة، حيث هناك تنتحر العدالة بلا قضاء يحاكِم، وينتحر القضاء لأنه ممنوع عليه سياسياً محاكمة مَن ينحرون وطناً وشعباً ومؤسسات...
الصراع السعودي - الإماراتي في اليمن.. والأبعاد الأُخرى _ يونس عودة
لبنان بين نار العدو ووهم المفاوضات: دولة تُقصف… وسلطة تنتظر المعجزات
مناورة ثلاثية ضد المقاومة: "إسرائيل" والقوات والنازحون الجولانيون ــ د. نسيب حطيط