أقلام الثبات
يثير تصريح السفير الأميركي توم براك خلال مشاركته في منتدى الدوحة، والمتعلّق باقتراح دمج لبنان وسوريا بذريعة انتمائهما إلى "حضارة واحدة"، وقبله حديثه عن "ضمّ لبنان إلى بلاد الشام"، استغراباً واسعاً، نظراً إلى ما ينطوي عليه من تبسيط مفرط لطبيعة العلاقات بين البلدين، وتعقيداتها التاريخية والسياسية. ورغم أن هذا الخطاب قد يبدو، للوهلة الأولى، متأثراً برومانسية الهوية المشرقية المشتركة، فإن قراءته في سياق السياسة الواقعية تكشف عن إشكاليات عميقة في فهم بُنى الدول في الشرق الأوسط وحدود تشكلها التاريخي.
يقوم هذا الطرح على مقاربة يمكن وصفها بالدبلوماسية الاستشراقية التي تُجرّد الدول من خصوصياتها وتتعامل معها كوحدات قابلة للدمج أو الاستبدال، بما يشبه منطق "التطوير العقاري" أكثر مما يشبه مقاربة سياسية متكاملة، فاختزال الكيانات السيادية إلى "أصول" يمكن إعادة تشكيلها يتجاهل المحددات التاريخية والاجتماعية التي أسهمت في بناء الهويات الوطنية الحديثة، وينظر إلى الحدود بوصفها عوائق تقنية بدلاً من كونها ركائز بنيوية للأمن والاستقرار.
وتزداد خطورة هذا الطرح في السياق اللبناني تحديداً، إذ يحمل الحديث عن "الدمج" مع سوريا حمولة تاريخية ترتبط بفترات من الهيمنة السياسية وبنضال طويل لاستعادة استقلال القرار الوطني.
إن تجاهل هذه الذاكرة الجماعية يعكس قصوراً في إدراك سيكولوجيا المجتمع اللبناني، الذي بات يرى في الحدود القائمة، على الرغم من نشأتها في حقبة سايكس بيكو (التي يرددها برّاك باستمرار)، ضمانة وجودية للتنوع والعيش المشترك، لا مجرد خطوط إدارية يمكن العبث بها.
إن الخطاب الدبلوماسي الذي يتعامل مع خرائط المنطقة بعقلية "إعادة الهيكلة" لا يساهم في معالجة أزمات الشرق الأوسط، بل يفاقم التوتر ويعمّق انعدام الثقة. فدور المبعوث أو الدبلوماسي في مثل هذه السياقات يتطلب حساسية مضاعفة تجاه الخصوصيات الوطنية وحدود التدخل، وإلا تحوّل إلى عنصر يُعمّق الانقسام بدل أن يسهم في التهدئة وبناء الحلول.
يعدّ مواقف براك مثالاً على خطاب فوقي يفصل بين الرؤية السياسية ومتطلبات الواقع الاجتماعي، رغم إدراكه أن مقاربته غير قابلة للتطبيق وأن أثرها السياسي سلبي في ظل الظروف الإقليمية الراهنة التي تحتاج إلى تعزيز الاستقرار واحترام سيادة الدول، لا إلى الترويج لمقاربات هندسية غير واقعية.
إنّ الانتقال من مقاربة "هندسة الخرائط" إلى مقاربة "هندسة الثقة" يقتضي من الدبلوماسية الأميركية التخلي عن التصوّرات القائمة على إعادة رسم الشرق الأوسط من الأعلى، أو فرض حلول تتجاهل المكوّنات وتمنح تفوقاً بنيوياً وهيمنة عسكرية لـ"إسرائيل"، وبدلاً من ذلك، ينبغي التركيز على تعزيز الثقة بين الأطراف، وصون المكوّنات الاجتماعية، واحترام الهويات الوطنية، وترسيخ دور المؤسسات بوصفها الضامن الأساسي للاستقرار المستدام.
اليمين المسيحي... وإشعال الحرب الأهلية الثانية ــ د. نسيب حطيط
الاعتراف "بإسرائيل" شراكة باحتلال فلسطين.. وتشجيع على احتلال وطنك _ د. نسيب حطيط
اشتُموني ما شئتم: لا بارك الله في "ثورة" أسهمت في وصول نتنياهو إلى تخوم دمشق ــ حسان الحسن