أقلام الثبات
في كانون الأول 1982، وبعد أشهر من الاجتياح "الإسرائيلي" واحتلال العاصمة، وتعيين رئيس للجمهورية (اُغتيل لاحقاً)، عُقدت أولى جلسات المفاوضات اللبنانية - "الإسرائيلية" في خلدة لتوقيع اتفاق سلام مع "إسرائيل"، وبعد ستة أشهر من المفاوضات، وُقِّع اتفاق 17 أيار عام 1983، الذي صُوت عليه في المجلس النيابي، وأُسقِط في الشارع بعد عام واحد!
يعود التاريخ للتكرار في كانون الأول 2025، فبعد مرور عام على حرب الـ66 يوماً، تبدأ المفاوضات اللبنانية - "الإسرائيلية" في الناقورة لتوقيع اتفاق سلام وتطبيع اقتصادي منذ الجلسة الأولى، بضغط أمريكي، وتحت النيران "الإسرائيلية"، وتدعمها أغلبية لبنانية من مختلف الطوائف والأحزاب، بالإضافة إلى أكثرية وزارية ونيابية مستعدة للتصويت على أي اتفاق سلام وتطبيع مع "إسرائيل"، ونزع سلاح المقاومة واجتثاثها والقضاء عليها، حتى لو أدى ذلك إلى احتلال "إسرائيل" للبنان.
لا شك أن الظروف التي تعيشها المقاومة وأهلها صعبة واستثنائية بعد الضربات التي تعرضت لها، وما تعانيه من عزلة سياسية وميدانية، إذ تقاتل وحيدة منذ عامين، ولا يلوح في الأفق من سيكون سنداً لها في أي حرب مستقبلية، ويزداد الخناق الداخلي عليها وما أشبه اليوم بيوم اجتياح 1982، عندما عاشت الطائفة المقاومة ظروفاً مماثلة، فاحتلت "إسرائيل" أكثر من نصف لبنان والعاصمة، ووصلت قوات متعدّدة الجنسيات والمارينز، ونُصِّب نظام سياسي تابع لها كما يحدث اليوم، وانقسم لبنان بين مهزومين مستسلمين وعملاء وأدوات "لإسرائيل" في مجازر صبرا وشاتيلا وشرق صيدا والجبل، وبين مقاومين استطاعوا ترسيخ معادلة إمكانية "مقاومة العين اللبنانية للمخرز الإسرائيلي" وعلى الرغم من الحشد المعادي وإقرار اتفاق 17 أيار، استطاع المقاومون اللبنانيون إسقاطه وتحرير الجنوب بعد 18 عاماً دون قيد أو اتفاق.
لا بد من توضيح بعض الثوابت التي لا يمكن لـ"الشيعة اللبنانيين" – أحزاباً ومسؤولين وأفراداً – تجاوزها فيما يتعلق بالقبول بالسلام والتطبيع مع "إسرائيل"، حتى لو وقّع "لبنان الرسمي"، لارتباط ذلك بالعقيدة الإسلامية، وبمعاناة أهل الجنوب على مدى سبعين عامًا من الغدر "الإسرائيلي"، وتجربتهم بأن الأمن الحقيقي والاستقرار والكرامة لا يمكن تحقيقها إلا بقوة المقاومة المستمرة وأن السقف الذي يمكن أن يقبلوه هو اتفاق أمني لوقف النار، كما حدث سابقًا بشكل غير مباشر، لكن ما يجري الآن، ومنعًا للتضليل، هو مفاوضات مباشرة، للتطبيع والسلام، وليست لتثبيت وقف إطلاق النار أو تنفيذ القرارات الدولية ، بل هي محاولة لفرض الاستسلام وفق الشروط الأمريكية - "الإسرائيلية"، وقد تجلّى ذلك بوضوح في المحادثات التي انقسمت إلى قسمين، الأول تناول الجوانب العسكرية التقنية، والثاني ناقش القضايا السياسية والتبادل الاقتصادي بين لبنان و"إسرائيل". والأسئلة المطروحة على من يسعون لتلطيف هذه المفاوضات هي:
ما علاقة التبادل الاقتصادي بوقف إطلاق النار؟
هل النقاش الاقتصادي يمثل خطوة أولى لإقرار "منطقة ترامب الاقتصادية"؟
هل يرتبط التعاون الاقتصادي بحصة "إسرائيل" من المياه اللبنانية والغاز في البحر؟
بيان السفارة الأمريكية حول اجتماع الناقورة، تحدّث عن الصفة العسكرية والسياسية للاجتماع، والبيانات المتلاحقة من مكتب رئيس الوزراء "الإسرائيلي" نتنياهو تؤكد أن هذه مفاوضات مباشرة للسلام والتطبيع، وليست مفاوضات تقنية لوقف النار.
قد لا تتمكن قوى المقاومة، بسبب الظروف الصعبة التي تعيشها، منع المفاوضات، وبعدما ارتكبت الدولة اللبنانية "الخطيئة الكبرى" بالموافقة على نزع سلاح المقاومة قبل المفاوضات، ما جعلها (الحكومة) تذهب ضعيفة ومكشوفة تستجدي السلام الأمريكي - "الإسرائيلي"، لكن لا يمكن لقوى المقاومة، وليس من المسموح لها، أن تكون شريكة في حكومة توقّع "اتفاق سلام وتطبيع" وتمنح الشرعية للاستسلام الرسمي اللبناني، فهذا يتعارض مع جوهر عقيدتها، ويلوّث تاريخ الشيعة المقاوم والمشرّف، وعليها أن تستقيل من الحكومة إذا وقعت الاتفاق، وألا تكتفي بالخروج من الجلسة، و عليها التصويت ضد إقرار الاتفاقية في مجلس النواب، وإلا سقطت شرعية تمثيلها للشيعة، ولا بد من البدء بتحركات شعبية ترفض التطبيع وتحصّّن الموقف اللبناني، لتقليل الخسائر وتحسين الشروط.
إن صمت الأحزاب، وعلماء الدين، وأهل الرأي، والمثقفين، يثير القلق والاستغراب، ويشير إلى انهزام فكري وثقافي خطير لم نشهده من قبل، فبعد اجتياح عام 82، تكاثر الانهزاميون والعملاء، ووُلدت المقاومة وانتصرت وحرّرت، واليوم، إن صمَت المقاومون سَتُولد مقاومة جديدة تعيد تحرير لبنان، كما حرّره المقاومون السابقون، ولو طال الزمن، فالاحتلال إلى زوال.
لا تخدعوا الناس، فالمفاوضات مباشرة للتطبيع والسلام وليس لوقف إطلاق النار، فإن لم تستطيعوا منعها، فلا تشرّعوها... لأنها حرام.
لسنا مغامرين ولا انتحاريين ولا مستسلمين أو مهزومين... بل عقلاء وأهل مبدأ وعقيدة.
التاريخ يُعيد نفسه... هزيمة وعمالة... ومقاومة ــ د. نسيب حطيط
الخميس 04 كانون الأول , 2025 11:08 توقيت بيروت
أقلام الثبات
مفاوضات الإرادة والإدارة اللبنانيتين.. والأهداف "الإسرائيلية" ــ يونس عودة
التحالف الأمريكي - "الإسرائيلي"... وتفكيك "الهلال الشيعي" _ د. نسيب حطيط
سنة على إسقاط الأسد وسقوط سوريا ــ أمين أبوراشد