خاص الثبات
في زمن الالتباس السياسي، لم يعد ممكنًا التمييز بين من يدافع عن الديموقراطية، ومن يستخدمها كغطاء لمشروع تعطيلٍ مبرمج. ففيما يرفع البعض شعار "الانتخابات النزيهة" و"حقوق المغتربين"، نجدهم في الوقت نفسه يقطعون الطريق على أي استحقاق انتخابي فعلي، ويُدخلون البلاد في دوّامة فراغٍ وتشكيكٍ مفتوح.
اليوم، تمارس قوات جعجع ومعها مجموعة من الشخصيات المتحالفة، أخطر أشكال الضغط السياسي والإعلامي عبر حملة منظمة تهدف إلى ترهيب النواب ودفعهم إلى مقاطعة الجلسة العامة لمجلس النواب.
فمنذ أيام، غزت مواقع التواصل حملة منسقة تحمل وسم #مشاركتك_خيانة، في مشهد يعيدنا إلى زمن الوصايات الحزبية والرقابة على المواقف.
تحت هذا الوسم، شنّ ناشطون “قواتيون” حملة تخوينٍ شاملة لكل نائب يجرؤ على المشاركة في الجلسة، فوُصِف الملتزم بواجبه الدستوري بأنه “خائن” أو “نائب العار”.
هذه اللغة ليست مجرد انفعال سياسي، بل منهج ضغطٍ مُحكم يُراد منه فرض إرادة حزبٍ على مؤسسة دستورية.
إنها محاولة لفرض "وصاية سياسية" جديدة على العمل النيابي، حيث يتحول المجلس من مساحة حوار وتشريع إلى ميدان تهديد وابتزاز.
لكن المفارقة الكبرى، أن الحزب نفسه الذي يقود اليوم حملة المقاطعة والتخوين، كان خلال العقد الأخير الخصم الأشرس للمقاطعين، إذ اتّهمهم حينها بتعطيل الدولة واختطاف المؤسسات وشلّ النصاب.
فالقوات اللبنانية التي كانت تصرخ ضد التعطيل، تمارسه الآن بأبشع صوره، لا عن قناعة وطنية، بل لخدمة حسابات تتجاوز حدود لبنان.
المقاطعة وسيناريو التمديد المقنّع
وراء هذا الضجيج الإعلامي والسياسي، يختبئ هدف واحد: تعطيل التصويت على قانون الانتخابات، وبالتالي فتح الباب أمام التمديد للمجلس النيابي الحالي لسنة إضافية.
التمديد الذي يتم تسويقه في الكواليس ليس وليد خلاف تقني، بل نتاج حسابات إقليمية دقيقة، تقف خلفها واشنطن.
فالإدارة الأميركية تدرك أن أي انتخابات تُجرى في أيار 2026 ستُنتج مجلسًا تنتهي ولايته في أيار 2030، أي قبل موعد الانتخابات الرئاسية المقررة في كانون الأول من العام نفسه. وهذا يعني أن هذا المجلس لن يكون صاحب القرار في انتخاب رئيس الجمهورية المقبل.
لكن إذا تم تأجيل الانتخابات إلى أيار 2027، فستنتهي ولاية المجلس في أيار 2031، أي بعد انتخاب الرئيس الجديد، ما يتيح لحلفاء واشنطن — إذا نالوا الأكثرية — أن يتحكموا بهوية الرئيس المقبل ومسار البلاد السياسي حتى نهاية العقد.
إنه مشروع تمديد مقنّع، تُدار فصوله بغطاء ديموقراطي زائف وشعارات وطنية براقة.
والوسيلة لتحقيقه: المقاطعة، التخوين، وتخويف النواب من المشاركة في الجلسة التي قد تفتح الباب أمام انتخابات حقيقية.
القرار لم يعد في يد الناخب اللبناني، بل في يد من يريد أن يضمن الأكثرية التي تنتخب الرئيس المقبل وفق ساعة واشنطن لا وفق استحقاقات بيروت.
هكذا، يُختزل الاستحقاق النيابي إلى ورقة ضغط رئاسية، وتتحول الديموقراطية إلى أداة هندسة زمنية تخدم مصالح الخارج.
الخاتمة: من يخاف الصندوق لا يؤمن بالديمقراطية
البلد لا يحتاج إلى مقاطعة ولا إلى تمديد، بل إلى مواجهة صريحة تحت قبة البرلمان.
من يهرب من الجلسة يخاف المواجهة، ومن يهاجم زملاءه بتهمة “الخيانة” يخاف الحقيقة.
الحقيقة البسيطة أن من يرفض الانتخابات في موعدها، إنما يخاف صندوق الاقتراع أكثر مما يخاف الفراغ.
الديموقراطية لا تُصان بالتخوين ولا تُبنى بالتمديد، بل تُحمى بالحضور، بالمحاسبة، وبمواجهة المشاريع التي تريد تحويل لبنان إلى ملحقٍ سياسي في دفتر المصالح الأميركية.
أميركا والغرب ونحن... في صراع بلا نهايات في الأفق ــ يونس عودة
الجنرال "أورتاغوس"... والتفاوض المباشر مع "إسرائيل" ــ د. نسيب حطيط
لا تلوموا المقاومة على عدم الرد... فالوقت لم يتأخر بعد ــ د. نسيب حطيط