الصحة للأغنياء.. والذل للفقراء _ عدنان الساحلي

الجمعة 17 تشرين الأول , 2025 08:22 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

        يكرر رئيسا الجمهورية والحكومة القول إن مشروعهما للحكم هو "استعادة الدولة"؛ في خطاب ضعيف ولا معنى له، فمصطلح الدولة يعني اجتماع شعب وسلطة على أرض واحدة. وإذا كانت الدولة غير موجودة أو مخطوفة، يسعيان لاستعادتها، فماذا يفعلان في موقعيهما الرئاسيين؟ وبأي صفة يجلسان على كرسيهما؟ وباسم من يحكمان؟

      الأولى بالرئيسين جوزاف عون ونواف سلام القول الصريح إنهما يعملان على استعادة السلطة، لأن الشعب موجود، ومن كفره بالسلطات المتعاقبة عليه، تراه يهيم على وجهه مهاجراً في بلاد الله الواسعة بحثاً عن لقمة العيش، وعن دولة تؤمن الطبابة والتعليم له ولأولاده بأقل كلفة ممكنة.

        هكذا حال اللبنانيين منذ حوالى قرنين من الزمن، عندما بدأ التصارع على السلطة بين النافذين في القائمقاميتين، "فوق الطريق وتحت الطريق"، بين إمارة مارونية وإمارة درزية، في ما سمي "متصرفية جبل لبنان"، وجرى لصقهما فيما بعد بالأقضية الأربعة، ليصنع منهما المستعمر الفرنسي "دولة لبنان الكبير"، من دون أن يعني توحيد الأرض (التي يحتل العدو "الإسرائيلي" اجزاء منها) نجاحاً مماثلاً في توحيد الشعب، الذي نراه مختلفاً حول معظم القضايا الحساسة، إلى حد التناقض، إذ إن اللبنانيين، على سبيل المثال، مختلفون حول تحديد من هو الصديق ومن هو العدو، فيصبح بالتالي القول باستعادة الدولة كلاما غير واقعي، خصوصاً أن السلطات غائبة عن أبسط واجباتها تجاه شعبها، ليس فقط في فشلها بحماية الأرض والشعب، من العدوان الخارجي، بل في فشلها الذريع في توفير أدنى الخدمات الضرورية للمواطنين ولمحدودي الدخل والفقراء تحديداً، وأولها الخدمات الطبية والعلاجات الصحية، بعد أن أصبح ما يسمى "مستشفيات حكومية" اسم على غير مسمى، لأنها باتت تتعامل مع المرضى مثل أي مستشفى خاص.

       واللافت أن معظم المواطنين، بمن فيهم الفقراء ومعدومي الدخل، باتوا يتوجهون إلى المستشفيات الخاصة ويتجنبون مستشفيات الحكومة، لأن كلفة العلاج في مستشفى حكومي لا تختلف، بل ربما تزيد عن مثيلتها في مستشفى خاص. ففي المستشفيات الحكومية عليك قبل الدخول، أن تدفع بدل وقوف السيارة في باحتها، ثم عليك أن تبحث عن طبيب يعالج المريض، أو يجري له عملية جراحية، تتفق معه على البدل الذي سيتقاضاه، ثم تسأل مكتب المحاسبة عن البدل الذي ستتقاضاه المستشفى "لأن الدولة لا توفر المال اللازم للمستشفى ولأطبائها ولا للمواد الطبية".. هكذا يقولون، حتى أن الدخول إلى قسم الطوارئ في المستشفى الحكومي يكلف المريض مبلغاً من الدولارات عن كل يوم انتظار فيه.

       أما في معظم المشافي الخاصة، فإن الدخول إلى قسم الطوارئ يعني أن تدفع "كاش" عن كل خدمة تقدم للمريض، حيث لا توفر الخدمة له قبل دفع كلفتها مسبقاً. ولا يمكن إجراء أي عمل علاجي أو جراحي، قبل دفع "تأمين" تتلقفه المستشفى من الأغنياء من دون معاناة، لقاء توفير العلاج المناسب لهم، لكنها لا تقبل تقديم العلاج على حساب وزارة الصحة؛ وإن قبلت تسلم تعهّد الوزارة، فإنها لا تحتسب له قيمة، بل تحسب الكلفة كاملة وربما أكثر على المريض، حسب جشع الطبيب والمستشفى، حيث لا رقابة ولا من يحزنون، ومن يجرؤ على مراقبة أعمال مستشفيات الطوائف والجمعيات والمرجعيات السياسية. وتلك الكلفة تفوق قدرة الفقراء ومحدودي الدخل على توفيرها، فيلجؤون إلى جمعيات ومرجعيات دينية أو خيرية أو سياسية، حاملين معهم ملفاً بحال المريض، يتضمن تقريراً طبياً وتقديراً للكلفة ووثائق ثبوتية عن شخصية المريض، فتتعهد لهم تلك الجمعيات والمرجعيات، بدفع نسب معينة لكن متدنية من الكلفة المطلوبة، مما يضطرهم إلى التوجه إلى أكثر من جمعية ومرجعية، في سبيل تأمين جزء من الكلفة المطلوبة؛ ويبقى على ذوي المريض الاستدانة أو بيع شيء يملكونه لسداد النسبة المتبقية المطلوبة منهم. وهكذا فإن "الدولة" التي يعمل عون وسلام على استعادتها؛ هم ومن سبقهم في حكم لبنان، تذل اللبنانيين بتحويلهم إلى متسولين على أبواب الجمعيات والمرجعيات، حتى لا يموت مريضهم امام أعينهم.

     الجدير بالإشارة، أن اللبنانيين: فقراء واغنياء، مرضى واطباء، عمالاً وارباب عمل، يتفقون في حالة من نوادر الاتفاق بينهم، على تقصير الدولة عن القيام بواجباتها، في كل المجالات، في الصحة والتعليم وفي تأمين المياه والكهرباء وغيرها؛ وهذه قضايا تجب الكتابة عنها لاحقاً، فيما كل قوة "الدولة" ونفوذها وقواها العسكرية والأمنية، موجودة وغير غائبة، تحرص في أولى أعمالها على حماية المصارف وأصحابها، التي خانت عقودها مع المودعين؛ واستولت على أموالهم وفرطت بها. وهذا من أسرار السفارات الأجنبية، التي تشرف على الحكم في لبنان وتديره وتقرر له أولوياته، في تناقض فج وغير مفهوم، بين غياب الدولة وسعي الحكام لاستعادتها في مكان؛ وبين وجودها بقوة وحسم في مكان آخر، فالأمن والصحة والتعليم والمياه النظيفة للأغنياء؛ فيما البؤس والذل للفقراء.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل