مقالات مختارة
أنا من الجيل الذي وُلد في خضم الحرب الأهلية اللبنانية. كان عمري أقل من سنتين عندما حدث الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وكنت في العاشرة وبضعة أشهر عندما انتهت الحرب فجأة، ذات يوم من تشرين الأول.
يُوصم جيلي بأنه "جيل الحرب الأهلية"، رغم أننا لم يكن لنا فيها لا ناقة ولا جمل، كنا أطفالًا صغارًا.
طبعًا، لا أذكر شيئًا عن احتلال بيروت، ثم طرد المحتل شرّ طردة. لكنني أتذكر العديد من الأمور وكأنها حدثت البارحة — وللأسف، أشعر أن بعضها يتكرر اليوم، وهو ما ليس موضوع هذه المقالة — كقتال الإخوة الأعداء، وصوت القذائف، وأزيز الرصاص، والهروب من المدرسة، أو عدم الذهاب إليها أساسًا وقت اشتداد المعارك.
لا تزال ذاكرتي تحتفظ بصورة مموّهة عن سوق الخضار الذي أُقيم في قلب نفق سليم سلام المُدمّر.
كان يأتي الصيف فنذهب إلى الجنوب، إلى قرية والدتي في قضاء النبطية، حيث كنا نرى ونسمع طوال الوقت في السماء خطّين أبيضين: أثر الطيران الحربي يخترق أجواءنا، عابثًا في سمائنا. وللصراحة، لا أزال حتى اليوم لا أحب رؤية هذين الخطين، لما يثيرانه فيّ من شعور مزعج.
كنا نسمع أيضًا دائمًا أصوات انفجارات أو إطلاق رصاص من بعيد... بعيد.
كان لدينا أصدقاء وجيران من قرى بعيدة في الجنوب. كانوا نادرًا ما يزورون قراهم، فهم بحاجة لتصريح للدخول والخروج. أما الشباب منهم، فقد نزحوا خوفًا من أن يتمّ إلحاقهم بالخدمة في جيش العملاء، الذي كان يسيطر على تلك البقعة المسماة "الشريط الحدودي".
كان لدينا أصدقاء من قرية اسمها "الريحان"، ولا زلت أذكر كيف كانت زيارة الريحان بالنسبة لهم مخاطرة ومغامرة قد لا تُحمد عقباها. ومع ذلك، لم يتوقفوا يومًا عن استصدار "التصريح" لزيارة أرضهم.
توقّفت الحرب الأهلية فجأة. كنا يومها في قريتنا في البقاع. أُزيلت المتاريس، وفُتحت المعابر، ونزلنا للمرة الأولى من الكحالة، بدل طريق الكرامة الوعرة التي كانت تأخذ منا نصف النهار للوصول.
اعتبر الجميع أن مرحلة قد طُويت، وأن مرحلة جديدة قد بدأت. ظهرت أسماء، واختفت أخرى، وتغيّرت المشاريع والبوصلة والتوجهات السياسية. لكن شيئًا واحدًا بقي، لم يكن في حسبان معظم الناس أنه قد يتغيّر: احتلال الجنوب.
ثم جاء السيّد.
كنت في الثانية عشرة تقريبًا عند تعيينه. شاب في أوائل الثلاثينيات من عمره.
أتذكر يوم الإعلان عن تعيينه، ولكن بكل صراحة، لم يكن الأمر يعني لي كثيرًا، وأنا الطفل الذي لا يفهم شيئًا في السياسة.
توالت الأحداث. شهدت حرب 1993، ثم "عناقيد الغضب" في 1996. كنت في هذه المرحلة قد بدأت أُدرك ما يحدث من حولي. وكانت "عناقيد الغضب" بالتحديد بداية لشيء أكبر.
كنا لا نزال نذهب إلى القرية في الجنوب، ولا نزال نرى الخطين في السماء، لكن أصوات التفجيرات والرصاص من بعيد كانت تتزايد.
بدأنا نسمع أكثر عن عمليات المقاومة.
ثم جاء العام 1997، وشهد حدثين لا يزال لهما أثر في حياة كل من عاصرهما: عملية أنصارية واستشهاد نجل السيّد.
كنت حينها في السابعة عشرة من عمري. سمعت السيد يعلن عن استشهاد هادي، ولم أكن أصدّق. ما هذا؟ أَيُعقَل أن يقدّم ابنه؟
توالت بعدها الأحداث، وتزايدت أصوات التفجيرات وأزيز الرصاص.
عمليات الشباب لا تتوقف، وأسماء كسجد، الدبشة، علي الطاهر، وغيرها تتكرر. كنا على يقين بأن شيئًا ما سيحدث، شيء لم يكن متوقعًا.
جاء العام 2000، وتحرر الجنوب في حدث يُعد أول انتصار عربي منذ سقوط غرناطة في الأندلس.
ويوم سمعنا خطاب بيت العنكبوت، أدركنا أننا أمام مرحلة جديدة، شيء لا يشبه ما سبق.
كان الأمر أشبه بالحلم: لم يعد هناك معتقل في الخيام، ولم يعد هناك شريط محتل، ولم يعد أصدقاؤنا بحاجة إلى تصريح لزيارة الريحان.
ثم جاء التغيير العظيم في 2006. كنت على مشارف السادسة والعشرين من العمر. جاء تموز، واندلعت حرب الشرق الأوسط الجديد.
كانت الأقسى منذ 1996، بل منذ أيام الحرب الأهلية، بسبب الدمار الهائل الذي لم أرَ له مثيلاً منذ أن دخلنا ساحة الشهداء عام 1990.
أذكر أني في أحد أيام الحرب اتصلت بوالدي قلقًا:
"هل نحن بخير؟ سمعت أنهم يتقدّمون، هل هُزمنا؟"
أجابني مطمئنًا:
"لا تقلق، كل شيء على ما يرام... إنها ترهات إعلامية."
وفعلًا، كانت كذلك، وكان الانتصار العظيم الذي غيّر وجه المنطقة.
تمر الأيام والسنون، نشهد متغيرات كثيرة في منطقتنا والعالم، لكن الثابت الوحيد فيها كان السيد: خطاباته، مواقفه، ثوابته التي لم تتغير ولم تتزحزح قيد أنملة.
في تلك المرحلة، وُلدت أجيال ونمت وتربّت عليه.
أجيال لم ترَ الشريط الحدودي، ولا ميليشيا لحد، ولا التصريح، ولا غيرها.
أجيال عرفت جنوبًا محررًا، وانتصارات، وعدوًا جبانًا يراقب من بعيد.
كان السيد منارة أنارت لنا الطريق، وفتحت بصيرتنا قبل أبصارنا، وأرشدتنا إلى دروب اليقين والنصر المؤزر.
لكل ذلك، في عمر الثالثة والأربعين، جاء طوفان تشرين، وكان الزلزال الكبير.
هجم العدو بكل ما أوتي من قوة، واعتقد كثيرون — بل وصدّقوا — أن المقاومة انتهت معه.
فجهزوا سكاكينهم، انتظارًا لانتهاء المعركة، لكي يُجهزوا عليها.
لكنني كنت واثقًا، يقينًا، أنها لن تُهزم مهما حدث، ومهما عظمت التضحيات.
كنت واثقًا لدرجة أنني تذكرت سؤالي لوالدي في 2006:
"هل هُزمنا؟"
وأجبت نفسي بنفس جوابه:
"كلا، إنها ترهات إعلامية."
من عاش زمن السيّد، لا يمكن أن يُهزم.
في الخامسة والأربعين من عمري، إن سألني أحدهم:
"هل أنت من جيل الحرب؟"
سأبتسم وأقول:
"كلا... أنا من جيل السيّد."
حسام