مقالات مختارة
لم يكن قصف الدوحة مجرد استفزاز، بل اعتُبر بمنزلة تجاوز للخطوط الحمراء، خصوصاً أن قطر كانت من أبرز الدول التي خاضت غمار مفاوضات التهدئة في غزة، بل كانت عنصر ضاغط على المقاومة في نقاط عدة. لذلك، جاءت القمة كرد فعل عاجل، وسط غضب شعبي واسع، ترافق مع ادانات من كافة الدول العربية والإسلامية ومعظم دول العالم، ليتم الدعوة بعدها الى قمة عربية إسلامية طارئة، تبحث في هذا التجاوز "الإسرائيلي" للخطوط الحمر، الا ان مخرجات هذه القمة أتت رمزية مع غياب للرد العملي.
من حيث الشكل، القمة كانت استثنائية؛ الحضور كان واسعًا، والبيان كان أكثر جرأة من المعتاد، لكن من حيث الفعل، لا تزال هناك فجوة بين التهديدات المعلنة والإجراءات الفعلية، فالحدث كان يستدعي على الأقل تحركًا دفاعيًا رمزيًا، كذلك الاقتصاد والإعلام لم يُستخدما بكامل قوتهما، رغم توفر الأدوات.
ويرجع ذلك بسبب الضغط الأمريكي الخفي على المشاركين خاصة دول الخليج العربي كما ان الانقسام السياسي بين بعض الدول حال دون اتخاذ قرارات أكثر حدة.
القمة كانت بمنزلة اختبار حقيقي لوحدة القرار العربي الإسلامي. ورغم أن قطر نالت تضامنًا واسعًا، إلا أن غياب آلية تنفيذية واضحة جعل المخرجات تبدو أقرب إلى "رد فعل غاضب" لا "خطة مواجهة شاملة".
وبالانتقال إلى حدث الساعة؛ اتفاقية الدفاع المشترك بين السعودية وباكستان؛ أسبابها وتأثيراتها.. لابد اولاً من الإشارة الى ان العلاقات السعودية - الباكستانية تعد من أقوى العلاقات الثنائية في العالم الإسلامي، وتقوم على الروابط الدينية والثقافية، فكلا البلدين يشتركان في الهوية الإسلامية, كذلك لجهة الدعم الاقتصادي فالمملكة العربية السعودية قدمت مساعدات مالية كبيرة لباكستان، خصوصاً في أوقات الأزمات الاقتصادية, اما في مجال التعاون العسكري والأمني فهناك تدريبات مشتركة، وتبادل في الخبرات الدفاعية، وهناك وجود باكستاني لحماية بعض المنشآت الحيوية في السعودية, كذلك على مستوى التنسيق السياسي، غالبًا ما تتوافق مواقف البلدين في المحافل الدولية، مع بعض التباينات أحيانًا بسبب ضغوط إقليمية، فالعلاقة تمر أحيانًا بتقلبات طفيفة، لكنها تبقى استراتيجية ومبنية على مصالح متبادلة وثقة تاريخية.
وأبرز بنود الاتفاقية "ان أي اعتداء على أحد البلدين يُعتبر اعتداءً على الآخر", كما انها تشمل التعاون في التخطيط العملياتي، المناورات، الدفاع الجوي والبحري، وتطوير الصناعات الدفاعية، اما أسباب عقد هذه الاتفاقية فهي كالتالي:
اولاً: الردع النووي الباكستاني فالاتفاقية تُعد بمثابة "مظلة ردع نووي" غير معلنة، تستفيد فيها السعودية من القدرات النووية الباكستانية دون امتلاكها بشكل مباشرة، مما يمنح الرياض ثقلاً إضافيًا في مواجهة التهديدات الإقليمية.
ثانياً: التحولات الإقليمية بعد قصف الدوحة فالهجوم الإسرائيلي على قطر، ومحاولة اغتيال الوفد المفاوض لحركة حماس، شكّل صدمة استراتيجية حيث رأت السعودية أن أمن الخليج لم يعد مضمونًا بالاعتماد على الولايات المتحدة فقط، فبدأت بتعزيز تحالفاتها الإسلامية.
ثالثاً: تاريخ طويل من التعاون العسكري فالعلاقات الدفاعية بين البلدين تمتد لعقود، وتشمل تدريبات ومناورات مشتركة، فالاتفاقية جاءت لتأطير هذا التعاون بشكل رسمي ومؤسسي، وتوسيع نطاقه ليشمل التصنيع العسكري وتبادل المعلومات.
رابعاً: إعادة صياغة معادلة الردع الإقليمي من وجهة نظر السعودية فهي تمتلك الشرعية الروحية والاقتصادية، وباكستان تمتلك القوة النووية والخبرة العسكرية، وهذا التحالف "من وجهة نظر المملكة" يُعد تشكيلاً لمحور إسلامي قادر على فرض توازن جديد في المنطقة.
خامساً: القلق من تراجع الضمانات الأمريكية، هناك شعور متزايد في الخليج بأن واشنطن لم تعد ضامنًا موثوقًا للأمن، خاصة بعد موقفها الأخير من العدوان الصهيوني على الدوحة، فالاتفاقية مع باكستان تُعزز استقلالية القرار الأمني السعودي.
وبالذهاب لموقف الولايات المتحدة من هذه الاتفاقية، يُتوقع أن يكون حذرًا ومراقبًا، وليس عدائيًا بشكل مباشر، وذلك لعدة أسباب استراتيجية ودبلوماسية منها:
- القلق من تراجع النفوذ الأمريكي، فواشنطن ترى أن الاتفاقية تعكس تحولًا في الاعتماد الأمني، خاصة بعد تزايد الشكوك الخليجية حول التزام أمريكا بالحماية، خصوصًا بعد قصف الدوحة، وهذا التحالف قد يُفسَّر كإشارة إلى أن السعودية تبحث عن بدائل استراتيجية خارج المظلة الغربية.
- محاولة التوازن بين الهند وباكستان، أمريكا تربطها علاقات قوية مع الهند، المنافس النووي لباكستان، لذا فهي تتحفظ على أي تحالف يُقوّي باكستان عسكريًا، خصوصًا إذا شمل مظلة ردع نووي غير مباشرة، لكنها في الوقت نفسه لا تريد خسارة السعودية، الحليف الاقتصادي والاستثماري الكبير.
وفي السياق ذاته أشار مسؤولون أمريكيون إلى أن الاتفاقية لا تُعد تهديدًا مباشرًا، بل هي "خطوة سيادية" ضمن ترتيبات دفاعية مشروعة، فواشنطن تفضل أن تبقى الاتفاقية في إطار التعاون الدفاعي التقليدي، دون أن تتحول إلى محور عسكري جديد يُربك التوازن الإقليمي.
بالمجمل، الموقف الأمريكي سيكون مزيجًا من الحذر، الترقب، ومحاولة الحفاظ على النفوذ دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الرياض أو إسلام آباد.
اما دولة الكيان فلم تكن بعيدة عن هذه الاتفاقية، فالقلق الإسرائيلي من باكستان كقوة نووية إسلامية
يعتبر تهديدا، رغم عدم وجود علاقات مباشرة أو مواجهات عسكرية، إلا أن العقيدة الأمنية الإسرائيلية تُصنّف باكستان "كـعدو محتمل" بسبب موقفها الثابت من القضية الفلسطينية، ورفضها الاعتراف بإسرائيل.
بنظر تل ابيب هذه الاتفاقية كسر للحصار الاستراتيجي، فهي ترى أن دخول السعودية، بثقلها السياسي والروحي، في تحالف دفاعي مع باكستان يُعد "تحولًا خطيراً"، ويهدد مشاريع التطبيع الإقليمي التي كانت تراهن عليها لتطويق المقاومة، خاصة ان هناك اتفاقيات امنية وعسكرية تربط باكستان بإيران وقد ظهر ذلك في المواجهات الأخيرة بين إيران ودولة الكيان حيث أبدت باكستان استعدادها لدخول المعركة ان لزم الامر.
فرد الفعل "الإسرائيلي" المتوقع سيحمل عدة مسارات
- دبلوماسيًا: ستضغط "إسرائيل" على واشنطن والهند لاحتواء باكستان، وربما تكثف جهودها لتقوية علاقاتها مع دول الخليج الأخرى؛ كالإمارات والبحرين.
- استخباراتيًا: من المرجح أن ترفع مستوى مراقبتها للتعاون العسكري بين الرياض وإسلام آباد، خاصة في مجالات الدفاع الجوي والتقنيات الصاروخية.
- إعلاميًا: قد تُطلق حملات تشويه ضد الاتفاقية، وتصورها كتهديد للاستقرار الإقليمي في المنطقة.
وان تطرقنا لسؤال سيدور في اذهان البعض: هل ستصعّد دولة الكيان؟
-الإجابة المتوقعة: من غير المرجح أن تُقدم على تصعيد مباشر ضد السعودية أو باكستان، لكنها ستعمل على تفكيك هذا التحالف تدريجيًا عبر أدوات الضغط الناعمة، والتحالفات المضادة.
من المرجح أن نشهد خطوات مشابهة من دول خليجية أخرى، لكن بدرجات متفاوتة وبحسب مصالح كل دولة، فوفق تحليل "لسكاي نيوز" و "فايننشال تايمز"، فإن الاتفاقية السعودية - الباكستانية أعادت فتح ملف "الأمن الخليجي الذاتي"، خاصة بعد قصف الدوحة، وتراجع الثقة في المظلة الغربية. وهذا دفع عدة عواصم خليجية إلى إعادة تقييم تحالفاتها الدفاعية.
- عُمان والكويت: الحذر الاستراتيجي، رغم انهما تميلان إلى الحياد، لكنهما قد تنضمان إلى ترتيبات دفاعية إقليمية غير معلنة، خاصة إذا تصاعدت التهديدات، فعُمان تحديدًا قد تلعب دور الوسيط بين المحاور، لكنها لن تبقى خارج الحسابات الأمنية.
- الإمارات: بين التطبيع والردع، رغم علاقتها المتقدمة مع إسرائيل، فإن الإمارات أعادت التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية، وعبّرت عن تضامنها مع قطر، وقد تسعى إلى اتفاقيات دفاعية مع دول مثل تركيا، لتوازن تحالفاتها دون التصادم مع الغرب.
- كذلك قطر مرشحة لتحالف دفاعي أوسع، خاصة بعد استهدافها، فمن المرجح أن تُفعّل تعاونًا دفاعيًا مع باكستان وتركيا، وربما تُعيد إحياء فكرة "التحالف الإسلامي العسكري" بشكل عملي، وترفع من مستوى العلاقات الأمنية مع طهران.
- اما البحرين فهي بين التحالفات التقليدية والتوجهات الجديدة، فقد تبقى ضمن التحالفات الغربية، لكنها لن تمانع في الانضمام إلى ترتيبات دفاعية خليجية إسلامية إذا ضمنت التوازن السياسي.
المنطقة تتجه نحو "تعددية أمنية جديدة"، حيث لم تعد دولة واحدة أو محور واحد يكفي لضمان الاستقرار. الاتفاقيات الدفاعية الثنائية أو الثلاثية ستزداد، خصوصاً إذا استمرت التهديدات الإسرائيلية وعدوانها المستمر على الشعب الفلسطيني ولبنان وسوريا واليمن، مع الدعم الأمريكي المطلق وفشل المؤسسات الدولية من ردعها، ربما هذا التعالي الصهيوني يضع كافة اتفاقيات التطبيع مع دول المنطقة في مهب الريح.
من الواضح أن المنطقة تشهد تحولًا جذريًا، خاصة في المجال الأمني والدفاعي، الاتفاقيات الأخيرة، بين السعودي الباكستاني، ليست مجرد ترتيبات ثنائية، بل إشارات إلى إعادة تشكيل خارطة التحالفات العالمية.
ربما نكون على أبواب ظهور قطب إسلامي دفاعي جديد يبدأ بالسعودية وباكستان وتلحق بهم عدة دول أخرى كقطر، تركيا، مصر، إيران وغيرهم.
إن العالم يتجه نحو تعددية وظيفية, حيث تتحالف الدول حسب الحاجة؛ دفاعياً, واقتصاديا, او إعلامياً, بعيداً عن أي روابط عرقية او دينية.
حمزة حسين