خاص الثبات
عشية 17 أيلول، لا تبدو الذكرى مجرد تاريخ عابر. إنها جرح مفتوح في ذاكرة الوطن، ذاكرة الجرحى الذين سقطوا يوم "البيجر"، والذين نهضوا بعد أن ظنّ الجلاد أنهم انتهوا. لم تكن رصاصات الغدر كافية لإسكات النبض. لم تكن الكارثة قادرة على محو الحقيقة. من بين الركام، خرجت حناجر الجرحى لتقول: "تعافينا، وسنواصل الطريق".
الوجع لا يزال حيًّا، لكنه ما عاد عورة نخجل منها. صار راية مرفوعة، شاهدة على بقاء الروح. في كل كلمة كتبوها، كان طيف الشهيد السيّد حاضرًا، كما لو أن صوته ما زال يدوّي: "كونوا حيث يجب أن تكونوا". وقد كانوا... في الوجع، في الصمود، وفي الشهادة على الجريمة.
ليست الذكرى مجرد استعادة للمأساة، بل هي مساحة لتثبيت الحق، وتأكيد الانتماء لخط الشهيد الذي لم يخضع، ولم يساوم، ولم يتنازل. الجرحى الذين صمتوا طويلاً، نطقوا اليوم، لا لينتقموا، بل ليقولوا إن ما جرى لن يُنسى، وإن الدماء التي سقطت لن تُهدر، وإن الرسالة التي حملها السيّد ستبقى نبراسًا مهما تكاثف الظلام.
إنها ليست فقط روايات متفرقة. إنها خارطة نجاة. كل شهادة منهم هي حجر في جدار الحقيقة، وكل دمعة منهم دليل على أن الطعنات لم تقتل فيهم روح الانتماء. حين كتبوا، لم يكتبوا عن الضعف، بل عن القوّة الكامنة في من قرروا البقاء واقفين رغم الإنهاك. وحين تحدثوا، لم ينطقوا باللوم، بل بالإصرار على حمل الرسالة حتى النهاية.
"تعافينا"، قالوها وكأنها نشيد انتصار. لكنّهم لم يقصدوا فقط شفاء الأجساد، بل تعافي الذاكرة، والإرادة، والإيمان بالقضية. لم ينحنوا، لأنهم أبناء مدرسة السيّد، الذي علّمهم أن الثبات ليس شعارًا، بل سلوك حياة.
17 أيلول ليس نهاية، بل بداية جديدة. بداية لمسيرة يُكتب فيها التاريخ لا من فم الجلاد، بل من صوت الضحية. بداية تُستعاد فيها المعاني الحقيقية: للشهادة، للالتزام، وللوفاء. فكما كان السيّد حيًّا في وجداننا، ها هم جرحى البيجر أحياء يكتبون فصلاً آخر من نفس السيرة، بنفس الحبر: الصدق، والإباء، والوفاء حتى آخر الطريق.