أقلام الثبات
لم يكن مستغرباً منذ ساعات سقوط مُسيَّرة "إسرائيلية" على سطح مستشفى صلاح غندور في بنت جبيل، مادامت المسيَّرات باتت تدخل عقر الدار، تُحقِّق مع هذا المواطن وتهدد ذاك، وبات رمي المناشير موضة قديمة في الإنذار والتهديد، فإذا كانت المسألة فردية، أرسلوا للمواطن اللبناني مُسيَّرة للتحقيق معه و"إجراء اللازم"، وإذا كانت المسألة جماعية، يُطِلّ أفخاي أدرعي عبر وسائل التواصل ويأمرنا بالابتعاد 500 متر عن الهدف الملوَّن بالأحمر، ونبتعد ليس فقط عن الهدف، بل عن رؤية مستقبلنا في هذه البقعة الملعونة من جغرافيا الأوطان.
هذا لا يعني أن رمي المنشورات للتعميم المباشر على السكان اللبنانيين قد انتفى، حيث عمدت مسيَّرة صهيونية يوم الجمعة إلى إلقاء منشورات تحذيرية فوق بلدة شبعا، حددت فيها ما وصفته بـ"الخط الأحمر" على خرائط مرفقة، محذّرة من تجاوزه، وتشمل المنطقة المحددة بالخرائط الجديدة، موقعاً سابقاً لخيمة أقامها حزب الله في يونيو (حزيران) 2023 قرب الخط الأزرق في مزارع شبعا.
وترافق ذلك مع قول قائد المنطقة الشمالية في الجيش "الإسرائيلي" رافي ميلو، إن انسحاب جيشه من النقاط الخمس الحدودية التي تحتلها "إسرائيل" في جنوب لبنان، مرتبط بوقف نشاط حزب الله جنوب نهر الليطاني، مؤكداً أن "إسرائيل" تحتفظ بخياراتها العسكرية إذا لم يتحقق ذلك عبر الوسائل السياسية أو الدبلوماسية.
وقال "ميلو" أن الحكومة اللبنانية أبدت نية "إيجابية جداً" لجمع سلاح حزب الله، لكنه أشار إلى أن القدرات اللوجيستية للدولة اللبنانية في هذا المجال محدودة.
لم تعُد المسألة مرتبطة بخوف "إسرائيل" من عودة حزب الله إلى نشاطه الحدودي، فهي بلغت مرحلة "ابتداع" الذريعة للبقاء على احتلالها، ليس فقط في لبنان ولا فقط في غزة بل في سورية أيضاً، حيث بات كامل الجنوب السوري مرتعاً لها بما فيه ريف دمشق، بما يعني أن المنطقة بأكملها دخلت مرحلة "الفوضى الخلاقة" التي كانت تنشدها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس، وهذا النوع من الفوضى معروف عندنا باللهجة اللبنانية الدارجة بعبارة "فِلِت الملقّ".
و"المِلَقّ" فلتان في لبنان على كل المستويات، عند حكومة فشلت في آخر اجتماع لها بإيجاد حلول لمعالجة النفايات وأزمات الصرف الصحي، بما يعني أن انقساماتها تتدرَّج من السماء حيث المسيرات الصهيونية تنتهك الكرامة الوطنية، إلى ما تحت الأرض حيث مجارير الصرف الصحي، وليس الخطاب السياسي السائد في البلد أعلى مستوى من النفايات والمجارير.
على سبيل المثال لا الحصر، فإن كل ما قرأه البعض من زيارة المسؤول الإيراني علي لاريجاني إلى بيروت، أن لقاء بعبدا كان فيه الرئيس جوزف عون صريحاً بوجوب حصر السلاح بيد الدولة، وكذلك رأي رئيس الحكومة نواف سلام خلال اللقاء الذي تداول فريقان لبنانيان الصور التي التقطت خلاله: واحدة تُظهر سلام شابكاً يده بيد لاريجاني خلال دخولهما إلى قاعة الاجتماع، والثانية تُظهر عبسة سلام في وجه لاريجاني خلال اللقاء، لكن أحداً لم يُعلِّق على لقاء لاريجاني مع الرئيس نبيه بري في عين التينة، لأن عقدة سلاح حزب الله هي في عين التينة، بانتظار تقديم قيادة الجيش في 2 أيلول المقبل خطتها المتعلقة ليس بسحب سلاح الحزب، بمقدار سحب هذا الموضوع من التداول الإعلامي والسياسي، والتعامل معه بحكمة ورويَّة يفتقدهما أهل السياسة في لبنان.
وإذا كان بعض أهل السياسة والإعلام جعلوا من شكلية زيارة لاريجاني للبنان إشكالية، وذهبوا إلى حدّ التوقف عند التصريح غير الدبلوماسي لوزير الخارجية يوسف رجي بقوله: "حتى لو عندي وقت لن استقبل لاريجاني"، فإن كتاب السفارة الإيرانية كان واضحاً بأن زيارة لاريجاني لا تتضمن لقاء رجي، وتسجيل المواقف الكلامية من طرف هكذا وزير خارجية، هي فقط خروج عن اللباقات الرسمية، التي يفرضها المنصب.
أما بعد، فإن تأجيل استحقاق المواجهة بين رافضيّ نزع سلاح المقاومة ما لم يتزامن الأمر مع كل ما يضمن السيادة اللبنانية ووقف الاعتداءات "الإسرائيلية"، وبين من يعتبرون نزع هذا السلاح بمثابة انتصار لهم، فإننا نكاد نجزم، أنه ليس من ثقافة الجيش اللبناني، أن ينزع تحت النار سلاحاً شعبياً كان له الفضل على مدى عقود في الحماية من النار، وليذهب المنتحرون بغيظهم إلى الجحيم والنار.
وفي آخر سجال حصل حول حصرية السلاح بيد الدولة، شاء رئيس الحكومة نواف سلام أن يتقاصف مع أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم وقال: "إن اتفاق الطائف نص بشكل صريح على بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها، مؤكداً عدم التراجع عن قرار حصر السلاح بيد الدولة ليكون فقط مع الجيش وقوى الأمن، وأنه لا يحق لأي حزب في لبنان حمل السلاح خارج إطار الدولة"، ونحن هنا لا نُعارض لا اتفاق الطائف ولا رئيس الحكومة ولكن، كما من حق "إسرائيل" الخوف على كيانها بصرف النظر عن رأينا بالكيان الغاصب، فإن من حق اللبنانيين المحتلة أراضيهم والمحرومين من حقوقهم بالعيش الكريم، أن يتمسكوا بسلاحهم مادام هناك احتلال، وليت الرئيس سلام ومن معه من "ودائع السفارات" يتركون معالجة هذه الإشكالية للجيش اللبناني، والاستراتيجية الدفاعية الواقعية التي يراها هذا الجيش، ليست للنشر على السطوح كمادة إعلامية إعلانية بالصوت والصورة للمُسيَّرات المعادية.