أقلام الثبات
يرى البعض أن الأجواء الضاغطة على لبنان حالياً، تشبه ما شهده من مقدمات الحرب الأهلية، عام 1975، فيما يرى آخرون أن هذه الأجواء تشبه تلك التي رافقت الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وما تلاها، لكن الوقائع تبين أن لبنان يعيش هذه الأيام أجواء الحالتين المذكورتين معاً.
بدأت حرب العام 1975 بإعلان "حزب الكتائب"، عبر قائد ميليشياته حينها بشير الجميل، ما أسماه "حرب تحرير لبنان من الغرباء"، اتكالاً منه على ميليشياته، المدربة والمسلحة من قبل العدو "الإسرائيلي"، بتمويل سعودي ظهر لكل متابع حصيف.
والمقصود بالغرباء حينها، كان المقاومون الفلسطينيون، الذين أحرجوا الأنظمة العربية واقلقوا المحتل "الإسرائيلي" وداعميه، وأعادوا قضية فلسطين إلى دائرة الاهتمام العربي والعالمي، على الرغم مما رافق وجودهم وتحركهم من سلبيات، تبين للقاصي والداني أنها كانت مدفوعة الثمن ومقصودة من قبل الذين تدخلوا بأموالهم لإفساد الثورة والثوار؛ وعلى رأس هؤلاء المملكة السعودية، التي تغطي حالياً انبطاح "رئيس السلطة" محمود عباس وتنسيقه الأمني مع الاحتلال؛ ويطالب وزير خارجيتها يزيد بن فرحان بنزع أسلحة "حماس"، مثلما يسرب للإعلام الماجور له في لبنان، بأن السعودية مستاءة من الرد اللبناني على ورقة الموفد الأميركي توم براك. وأن مسؤولي المملكة أبلغوا الجانبين الأميركي والفرنسي بذلك.
بدأت حرب 1975 باعتبارها مجازاً "حرباً ضد الغرباء"، لكنها واقعاً كانت لاستدراكك التغيير الذي بدأ يصيب أسس النظام اللبناني، عبر الإنجازات الشعبية، مثل إنشاء الجامعة اللبنانية وفرض حد أدنى للأجور وإقامة مؤسسة الضمان الاجتماعي، وغيرها من مكتسبات شعبية وعمالية وسياسية، تتعارض مع فكرة وفلسفة ووظيفة إنشاء متصرفية جبل لبنان، بالنسبة للغرب، كمقدمة لإعلان دويلة لبنان الكبير، على أيدي دول الغرب ذاتها، التي تدعم "إسرائيل" بكل شيء؛ وتدفع بعض اللبنانيين للمطالبة بإلغاء المقاومة ونزع سلاحها؛ والاستسلام أمام مطامع الغزاة الصهاينة ومشاريعهم التوسعية والاستيطانية.
كان الغريب عام 1975 هو الفلسطيني المسلح، فيما الغريب اليوم هو "اللبناني المقاوم". وهذا سر وصف أبواق أميركا و"إسرائيل" ومملكة آل سعود لجمهور المقاومة بانه "إيراني"، فكل من يعادي مشاريع أميركا ويرفض وجود الكيان "الإسرائيلي"، هو غريب يجب الخلاص منه إما بالقتل أو الترحيل، في حين أن البقاء برأيهم هو لـ"الإسرائيلي" ومن يخضع له، وهذا حصل للمقاومين الفلسطينيين بترحيلهم بالبواخر، وهو ما يهدد جماعة أميركا و"إسرائيل" في الداخل اللبناني، بحصوله غداً لجمهور المقاومة اللبنانية.
وحتى لا يضيع الحديث حول تفاصيل كثيرة من خارج السياق، لا بد من التذكير بأن من أشعل الحرب عام 1975، كان هدفه السلطة والوصول إلى كرسي قصر بعبدا، على جثث اللبنانيين وأملاكهم وجنى عمرهم ووحدتهم الوطنية. لذلك عندما فشل بمشروعه، استدعى جيش العدو "الإسرائيلي" عام 1982، ليوسع اجتياحه من حدود نهر الأولي، إلى داخل العاصمة بيروت، ليتسنى له تنصيب بشير الجميل رئيساً على لبنان.
ولأن تلك الحروب من تخطيط الخارج وتنفيذ أدواته الداخلية، جرى توسيع دوائرها لتشمل كل اللبنانيين، لإنهاكهم وإجبارهم على الخضوع لمخطط الاعتراف بكيان العدو "الإسرائيلي". وهكذا تطورت تلك الحرب إلى حروب بين اليمين اللبناني والمسلح الفلسطيني؛ ثم بين اليمين واليسار، ثم بين مسلم ومسيحي، ثم بين مسيحي ومسيحي؛ وبين مسلم ومسلم، بل وداخل كل طائفة بحد ذاتها. ووصلت أمور الإنهاك والتدمير لحياة اللبنانيين، إلى حد إفقارهم وتجويعهم وضرب قوة عملتهم الوطنية، لتنهار إلى أكثر من ستين ضعفاً، عما كانت عليه تجاه الدولار الأميركي. ثم ليقوم تحالف زعماء الطوائف وأصحاب المصارف، بأمر أميركي وبقرار قضى بتجفيف لبنان من العملات الصعبة، فسرقوا إيداعات اللبنانيين في المصارف وهربوها إلى الخارج، إمعاناً في الضغط عليهم.
الآن، بعد أن نصبت الولايات المتحدة رئيساً على لبنان؛ وفرضت رئيس حكومة اختارته سفارتها وزراءه بالأسماء، جاء دور الهدف الأساس وهو التخلص من المقاومة ونزع سلاحها؛ وتسليم لبنان بالكامل للعدو "الإسرائيلي"، بإشراف أميركي وتمويل سعودي، مثلما جرى لسورية، التي لم تشفع لها إعلان حكامها الجدد أنهم خاضعون لأميركا وللسعودية ولتركيا عضوة حلف "الناتو"؛ وبأن لا حرب بينهم وبين من يحتل جولانهم؛ فإذا بالآلة العسكرية "الإسرائيلية" تتجبر عليهم وتدمر كل إمكاناتهم العسكرية؛ وتفرض عليهم إخلاء حدودهم مع أراضيهم المحتلة من كل سلاح.
في زمن الاستتباع المطلق لقوى الهيمنة والتسلط، العاملة في خدمة الصهيونية والكيان "الإسرائيلي"، يخرج علينا بكل وقاحة من يطالب بنزع سلاح المقاومة؛ وبان يحتكر الجيش السلاح، والسؤال: هل يملك الجيش أسلحة قادرة على حماية لبنان، حتى يتمكن من احتكار السلاح؟ وكيف يريدون للجيش أن يحتكر السلاح وهو يتوسّل (للأسف) المساعدات المالية والغذائية من الخارج؟ كيف يريدون من الجيش احتكار السلاح؛ وهو الذي يتفرج على الاعتداءات "الإسرائيلية" اليومية؛ وعلى أعمال القتل والتدمير والاغتيال في الجنوب وكل مناطق لبنان، لأنه يفتقر إلى القرار السياسي بالمواجهة، كما أنه يفتقر للسلاح الذي يتيح له ذلك؟
والواقع أن الأميركي هو الذي يحتكر السلاح في لبنان، هو الذي يمنع تسليح الجيش اللبناني؛ وهو الذي يمنعه من تنويع مصادر تسلحه. ولذلك يريد الأميركي ومعه "الإسرائيلي" تجريد المقاومة من السلاح، حتى لا يبقى في لبنان غير السلاح الأميركي و"الإسرائيلي"، ولذلك فإن الجواب اليوم، كما كان سابقاً وسيبقى غداً، بأن خيارنا هو المقاومة وسلاحها. هذا السلاح الذي وحده يحمي لبنان واللبنانيين من العدوان "الإسرائيلي"، كما يحميه من التسلط الأميركي ومن سعي النفطيين مثل آل سعود ومرتزقتهم، إلى جعل لبنان مجرد كباريه وماخور على شاطئ المتوسط.
