أقلام الثبات
زار قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل، الأردن خلال الأيام الماضية، بهدف "تبادل الخبرات" مع الجيش الأردني؛ وللحصول منه على "مساعدات عسكرية على شكل معدات خفيفة لأن باقي الأنواع تحتاج الى موافقة أميركية مسبقة"، حسب ما نقلت وسائل إعلام لبنانية، وكذلك "لتعزيز التعاون والتنسيق بين جهازي المخابرات في البلدين".
بداية لا بد من الانتباه إلى أن الأردن بلد لا يصنع الأسلحة، وبالتالي فهو ليس مصدراً لها، لأن تجارة السلاح تختص بشركات صنعه وببلدان تلك الشركات، أما الأردن فهو مثل لبنان في العهود الأخيرة؛ يتلقى ما تجود عليه الولايات المتحدة من خردة مخازنها في أوروبا الغربية، ما يكفي للدفاع عن النظام في عمليات الأمن الداخلي؛ وبما لا يمكن في اي ظرف أن يشكل خطراً أو تهديداً لعمليات العدو "الإسرائيلي"، ناهيك عن أن الأردن يرتبط مع العدو "الإسرائيلي" باتفاقية "وادي عربة" التطبيعية؛ وهي النسخة الأردنية لاتفاقية "كمب ديفيد" المصرية. أي أن هناك تنسيقاً أمنياً أردنياً -"إسرائيلياً". وهذا الأمر قديم يسبق الاتفاقية المذكورة؛ ويعود إلى مرحلة تأسيس الاحتلال البريطاني للكيانين "الإسرائيلي" فوق أرض فلسطين؛ والأردني في شرق نهر الأردن.
إذاً هي زيارة لا يشتم منها رائحة خير على لبنان، بل تستوجب الحذر والتنبه، لأن سجل التعاون العسكري بين لبنان والأردن غير مشجع، إلا للذين يعملون في خدمة دول الاستعمار القديم والجديد. فالجيش الأردني عندما نشأ كان بقيادة غلوب باشا، المعروف بـ"أبو حنيك"، الجنرال الإنكليزي المشهور، الذي قاد جيش الأردن من سنوات 1939 حتى 1956. ولهذا الجيش سجل أسود تجاه فلسطين وقضيتها، فوقائع النكبة تذكر أن جيش "أبو حنيك" كان يدعوا الفلسطينيين لمغادرة قراهم وبلداتهم، لإتاحة المجال له للدفاع عنها، في حرب 1948؛ وبعد أن يتسلمها منهم، يقوم بتسليمها للعصابات الصهيونية المسلحة، التي كانت نواة جيش الاحتلال.
ويشهد التاريخ العسكري اللبناني، أن الأردن كان حليفاً قوياً لحكم الرئيس الراحل كميل شمعون؛ مدّه بأسلحة ودعم، بأمر إنكليزي وأميركي، خلال الثورة عليه عام 1958، رفضاً لضم لبنان إلى حلف بغداد الأميركي، الذي كان يضم إيران الشاه وعراق الملكية وحاكمها الفعلي نوري السعيد وتركيا الأتاتوركية، التي لا تختلف كثيراً عن تركيا أردوغان الحالية، فهل نحن أمام بوادر تحالف تنسج خيوطه بهدوء؟
كما يذكر اللبنانيون، أن الأردن بعدما أنجز مجازر كبرى بحق الثورة الفلسطينية، ضد قواعدها في الأغوار وفي مخيمات عمان والسلط والزرقا واربد وغيرها، في أعوام 1969- 1970، إثر فشل العدو "الإسرائيلي" في ضرب الفدائيين، في معركة الكرامة البطولية الشهيرة، التي أهين فيها جيش الاحتلال ودمرت دباباته ومات جنوده فيها حرقاً. بعد تلك الأحداث، "أهدى" الجيش الأردني الجيش اللبناني، أربعون دبابة "إم-48" (1971)، طبعاً بأمر أميركي، حملتها ناقلات أردنية براً من الأردن إلى بيروت، أمام أعين اللبنانيين. وتبين فيما بعد أن الهدف من هذه "المكرمة" الأردنية، هي دعم الجيش اللبناني في عملياته العسكرية ضد الفدائيين الفلسطينيين.
وهذه "الهدايا" الأميركية عبر الأردن، حصلت أيضاً عندما زار قائد الجيش جوزيف عون الأردن عام 2017، وحصل على اسلحة ودبابات قديمة، استعملها الجيش لمقاتلة التكفيريين في حرب الجرود. كما قدم الأردن للبنان عام 2010 ستون دبابة "إم 60"، كانت قد أصبحت عالة على الجيش الأردني لتعطلها ولكلفة صيانتها.
والمشكلة في لبنان، أن القرار السياسي ما يزال على حاله، في الخضوع للقرار الأميركي بحصر دور الجيش اللبناني في الأمن الداخلي، كشرطة تقف على الحواجز وتفتش المدنيين. وفي "ومكافحة الإرهاب". وممنوع على هذا الجيش ان يملك القوة، التي تتيح له حماية لبنان من العدوان "الإسرائيلي". والأخطر، أن الحديث عن التعاون المخابراتي، يمكن ان يجر إلى مهاو وحفر عميقة. فالتنسيق الأمني الأردني – "الإسرائيلي" يمكن أن يصبح تنسيقاً أمنيا لبنانياً - "إسرائيلياً" عبر طرف ثالث، ما دام ذلك هو ما تأمر به أميركا ويخضع له حكام لبنان.
والمهللون اللبنانيون للتبعية اللبنانية للمخططات الأميركية، يرون "ان المساعدات العسكرية الاردنية، رافعة استراتيجية لا تقل عن الدعم المالي والسياسي"، لأنها برأيهم "تؤسس لشراكة امنية طويلة الأمد، تتقاطع فيها الضرورات الامنية مع الرؤية العربية الجامعة لمفهوم الامن القومي المشترك".
وهذا المفهوم العربي للأمن المشترك، نراه بوضوح تام في مواقف الدول العربية مما يجري في غزة وفلسطين. وخصوصا من تلك الدول التي يركز حكام لبنان الجدد على التقرب منها، باعتبارها "الحضن العربي" المنشود، فيما هو في حقيقته حضن أميركي وصهيوني، يريد بالترغيب والترهيب جرّ لبنان الى حضن التطبيع مع العدو "الاسرائيلي".
وتعتبر بعض الاوساط السياسية والإعلامية (ان العلاقة العسكرية اللبنانية- الاردنية، هي جزء من "هندسة أمنية" اميركية اوسع في المنطقة. وأن التعاون الامني بين لبنان والاردن، حالياً، يعتبر من اولويات الاهتمام الاميركي، لان عمّان تملك نفوذا استخباراتيا كبيرا في المنطقة". كما أن هناك "تأكيدات بان المخابرات الاردنية من أبرز اجهزة المخابرات الفاعلة في المخيمات الفلسطينية في لبنان".
وبالمحصلة، لم نتعود على "تعاون" عسكري لبناني - أردني لخير لبنان. فالنظام الأردني هو نظام تبعي بالكامل، كان لبريطانيا، التي أسسته، ثم استولت أميركا على تلك الوصاية، بعد وراثتها نفوذ بريطانيا وفرنسا في الشرق، عقب فشلهما في عدوانهما عام 1956 على مصر عبد الناصر. ولبنان من خلال تلك العلاقات، يغرق حتى شعر رأسه، في المخططات الأميركية، التي هي "إسرائيلية" عملياً، مثلما شهدنا ونشهد أمام أعيننا.
