خاص الثبات
في مشهد يلخّص بؤس الواقع السياسي اللبناني وانكشافه أمام الهيمنة الخارجية، خرج رجل الأعمال الأميركي – اللبناني الأصل، توم برّاك، ليكرر بما معناه على شاشة تلفزيون لبنان الرسمي: "أميركا لا يمكنها إجبار إسرائيل على القيام بأي شيء، لكنها تستطيع إجبار لبنان على كل شيء."
هكذا، بكل وضوح وصلف، قالها ابن النظام الأميركي، لا كمجرد ملاحظة سياسية، بل كمن يوجّه صفعة متعمدة إلى بلد ينتمي إليه اسميًا، ويعرف تمامًا أن لا قدرة له حتى على الرد.
الكارثة ليست فقط في التصريح، بل في السياق. فالرجل لم يكن في مناظرة نارية أو على قناة أجنبية معادية، بل ضيفًا رسميًا على شاشة الدولة اللبنانية نفسها، يُكرَّم ويُستقبل وكأنه مبشّر بالخلاص، لا مبشّر بالإذلال.
فهل هناك دولة تحترم نفسها تستقبل على منصّتها الرسمية من يفاخر بإخضاعها؟ من يُعلن أمام الملايين أن بلده يستطيع إذلالنا، بينما هو محصّن، محمي، مرفّه في حضن الإعلام اللبناني؟
هذا ليس مجرد مشهد إعلامي عابر، بل تكثيف فاضح لعلاقة التبعية المهينة التي تُمارسها الولايات المتحدة على لبنان وسائر دول المنطقة.
أميركا التي تدّعي الدفاع عن الحرية والديمقراطية، لا ترى في لبنان إلا ساحة اختبار لإملاءاتها، وتتعامل مع دولته كأداة يمكن ليّ ذراعها متى أرادت، بالعقوبات حينًا، وبالحصار السياسي حينًا آخر، وبأدوات داخلية مدرّبة على التبعية في كل حين.
وفي المقابل، حين يتعلق الأمر بكيان العدو الصهيوني، تتحوّل واشنطن إلى محامية شيطانية لا تعترف بأي قانون أو محاسبة.
تل أبيب تقصف وتقتل وتغتصب الأرض، فتردّ أميركا بالفيتو في مجلس الأمن. تخرق الأجواء وتعتدي على لبنان؟ "قلق" أميركي. تهدم بيوت الفلسطينيين؟ "ندعو لضبط النفس". لكنها في لبنان، تُنظّر، وتفرض، وتحدد مَن يدخل الحكومة، ومتى تُجرى الانتخابات، وماذا يُقال في البيانات الوزارية. ومع ذلك، لا تزال بعض النخب عندنا ترى في أميركا "صديقة" و"راعية للاستقرار"!
تصريح توم برّاك ليس زلة لسان، بل اعتراف رسمي بوظيفة أميركا في المنطقة: حماية "إسرائيل" حتى من النقد، وفرض الإرادة على من سواها. إنها قوة لا تُمارس السياسة، بل الهيمنة. لا تفاوض، بل إملاء. لا شراكة، بل استعمار ناعم يُمرر عبر النخبة، والإعلام، والمؤسسات المالية، والضغط "الناعم" الذي يقتل من دون رصاص.
أما في لبنان، فقد نجحت واشنطن بتحويل الدولة إلى حالة متأرجحة بين الانهيار والتعطيل. تمنع الكهرباء من الشرق، وتمنع التمويل من الغرب، وتترك الشعب يتخبط في أزماته، ثم تأتي لتقول: "قوموا بالإصلاح". أي إصلاح؟ بأي شروط؟ ولصالح مَن؟ أليس من الإصلاح أن يُمنع استضافة من يُهين كرامة البلد على شاشته الرسمية؟
إن ما كشفه برّاك بلسانه، كانت الطبقة السياسية والإعلامية في لبنان تمارسه منذ سنوات، لكن من دون إعلان مباشر. التصريح لم يفضح أميركا فقط، بل فضح هشاشتنا، واستعداد البعض عندنا لتبرير الذلّ، بل واستقباله بالأضواء.
في النهاية، السؤال ليس لتوم برّاك، فهو قال ما يعتقده ويعرفه. السؤال للدولة اللبنانية: إلى متى نستضيف الإهانات باسم الواقعية؟ وإلى متى نكرّم من يُخبرنا أننا بلا إرادة، ولا نردّ حتى بكلمة؟