ودّعوا الذهب وأملاك الدولة ـ عدنان الساحلي

الأحد 30 آذار , 2025 01:03 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

"تيتي تيتي، متل ما رحتي متل ما جيتي"، هذا القول الشعبي اللبناني المشهور يصح اسقاطه على مشهد الخلاف بين رئيسي الجمهورية والحكومة، جوزاف عون ونواف سلام، حول تعيين حاكم جديد لمصرف لبنان المركزي، ليخلف الحاكم السابق المسجون بتهم فساد وتصرف في المال العام.
هكذا تعوّد اللبنانيون على خلافات رؤسائهم، فإن يختلف رئيسان على اتخاذ قرار، ليس امراً مستغرباً، لو أنهما وصلا إلى منصبيهما بحجم شعبية ونفوذ كل منهما، لكن رئيسي الجمهورية والحكومة وصلا بقوة ونفوذ خارجيين، مما يعني أن الخلاف ليس بينهما، بل بين الجهات التي دعمت ترئيسهما، وهذا أمر مستبعد حالياً، فلا فرنسا ولا المملكة السعودية في مقدور كل منهما مخالفة القرار الأميركي.
لكن تجارب اللبنانيين تقول إن خلافات الرؤساء تفتعل أحياناً، ليقنص كل منهم تعاطفاً عصبوياً وطائفياً بالتحديد، حيث يظهر في الخلاف أن الرئيس الماروني، هو ذلك الشخص القوي الذي يدير البلاد؛ ويسعى لاستعادت ما انتقص من صلاحيات، انتزعت منه بفعل الصراعات والتوازنات المستجدة. وبالمقابل، يظهر رئيس الحكومة السني، أنه ذلك القوي القادر على النيل من صلاحيات الرئيس الماروني الواسعة، التي كانت قبل اتفاق الطائف تجعله حاكماً بأمره، فيما كان رئيس الحكومة مجرد "باش كاتب"، يعينه رئيس الجمهورية ويعزله ساعة يشاء. 
وفي الغالب، يرى المتابعون، أن الخلاف الحالي بين الرئيسين، يندرج في سياق التعمية على الدور المناط بحاكم مصرف لبنان، فإثارة غبار الخلاف، تلهي الناس عن إصدار ردود فعل حول الشخص الذي جرى تعيينه؛ وحول الدور الذي سيؤديه، خصوصاً في ما يخص أموال المودعين المحتجزة لدى المصارف، أو تجاه الأموال المهربة إلى خارج لبنان؛ وبالتالي، تجاه السياسة المالية العامة التي سيعتمدها العهد والحكومة؛ وفي أي سياق ستكون.
والواضح عند الحديث عن الوضع المالي في لبنان، أن البصمات الخارجية عموماً والأميركية خصوصاً، تبدو واضحة، من خلال المسار الذي أدى إلى إفلاس لبنان وافقار شعبه.
فبعد العدوان "الإسرائيلي" على لبنان عام 1982؛ وإجلاء المقاومة الفلسطينية بالبواخر، طرحت فكرة أن التخلص من ميليشيات الحرب، يتم عن طريق شراء قادتها بالمال، أو ملاحقتهم بأفعالهم ليتم سجنهم، وهو ما جرى في الحالتين.
وفيما تم تلزيم الأمن في لبنان لجهة والاقتصاد لجهة اخرى، اعتبر الساعون لإرضاء ما يسمى "المجتمع الدولي"، أي الأميركي؛ وكذلك "الحضن العربي"، أي السعودي، عبر ضمهم لبنان إلى المطبعين مع العدو "الإسرائيلي"، أن المقاومة الساعية إلى تحرير الأرض من الإحتلال "الإسرائيلي" ميليشيا غير شرعية، فجرى التآمر على المقاومة وارتكبت بحقها مجازر وعمليات عسكرية وامنية؛ وما يرويه الرئيس الأسبق إميل لحود كاف وواف. لأن ما هو مطلوب أميركيا وسعودياً، هو التخلص من المقاومة وإدخال المنطقة بالكامل في العصر "الإسرائيلي".
أما اقتصادياً، فشنت "حرب" لتجويع وتطويع اللبنانيين. وجرى إغراق دولة المحاصصة والزبائية التي تحكمهم بالديون. كانت تلك الديون بالعملة الوطنية، فشرّع مجلس النواب وهو بكامل وعيه، السماح بالاستدانة بالعملات الصعبة، لتكبير حجم الهدر والسرقات، عبر المشاريع والأساليب المختلفة، التي يعرفها ويتحدث عنها اللبنانيون بأصوات عالية. ولم يترك المعنيون من كبار المسؤولين وسيلة أو طريقة لنهب البلد وافقار الناس إلا واعتمدوها، فتضخمت ثرواتهم بالتوازي مع زيادة نسبة الفقر في لبنان. وكان الشعار العلني: أن الديون سيسددها عرب النفط، عندما ينضم لبنان إلى الدول العربية التي خضعت للإملاءات الأميركية؛ وفتحت أبوابها لسفارات الكيان التوسعي الذي يحتل فلسطين.
ارتكزت تلك الحملة، بداية، على تحويل كل نواحي الاقتصاد اللبناني إلى النظام الريعي، فهمشت الصناعة والزراعة والتجارة. وأطلقت العنان لسياسة الاستدانة بحجة إعمار ما خربته الحرب. ولم تعدم وسيلة ضغط وإرغام إلا واستخدمت لإخضاع اللبنانيين، من إيقافهم في طوابير الانتظار للحصول على حاجاتهم الضرورية، إلى تقنين وقطع الكهرباء وتسليم رقاب الشعب لمافيا المولدات، التي يحميها ويشارك في أرباحها تحالف الفساد، المشكل من زعماء الطوائف وأصحاب المصارف.

ودفع اللبنانيون إلى طوابير القهر أمام محطات البنزين؛ وجرى إخفاء الأدوية من الصيدليات بتواطؤ من المسؤولين الرسميين عن هذا القطاع؛ وافتعلت أزمة طحين وخبز؛ وافتعلت أسباب لقطع المياه وعدم ضخها. وقبل ذلك وبعده ومعه، جرى اللعب في سعر صرف العملة الوطنية، التي تراجعت قيمتها عشرات الأضعاف، مما أسقط القدرة الشرائية لمعظم اللبنانيين.
وظهر أصحاب المصارف كأبرز المستفيدين من هذه الفوضى المنظمة، فسلفت المصارف الحكومات بفوائد خيالية، من أموال المودعين. وتضخمت رساميل أصحاب المصارف، التي كانت عام 1992 اقل من ثلاثمائة مليون دولار، فأصبحت تفوق السبعة وعشرين مليار دولار، بعد أن وزعت أرباحها. وحسب التقارير المتداولة فان المصارف اللبنانية دفعت الى مودعيها بين عامي 2009 و2018 فوائد بقيمة 63 مليار دولار، ذهب معظمها إلى كبار المودعين.
​ولاستكمال هذا المخطط الإجرامي بحق لبنان واللبنانيين، شنت حروب على لبنان وافتعلت أزمات ونفذت اغتيالات، فالمطلوب خطف قرار لبنان واللبنانيين بالكامل إلى حضن الأميركيين و"الإسرائيليين"، وجرى افتعال "ثورة"، كانت أهدافها غير أهداف الناس وشعاراتها غريبة عن أوجاعهم؛ ومطالبها بعيدة عما يريدونه من مطالب. كانت تلك "الثورة" التي نفذتها الجمعيات "الأهلية" الممولة من السفارات الغربية؛ واحداها صاحبة اليد العليا في حكومة نواف سلام. وشكل ذلك ستاراً دخانياً لقرار أميركي بتجفيف لبنان من العملات الصعبة، فجرى تهريبها إلى مصارف الدول الغربية.
واليوم، بعد تعيين كريم سعيد حاكما لأمر المال، لا بد ان نذكر ان سعيد هو صاحب "خطة هارفرد"، التي تنص على تحويل أموال المودعين المحتجزة لدى المصارف، إلى ديون لهم على الدولة، بما يخلص المصارف من حقوق المودعين ويزيد الديون على لبنان؛ ويرفع حجم الضرائب على اللبنانيين. ورمي مشكلة المصارف على الدولة، سيوصل إلى بيت القصيد وهو بيع أملاك الدولة ومؤسساتها وتسييل الذهب، المودع ثلثه تقريباً في أميركا، تحت شعارات مضللة، مثل التشاركية واستثمار تلك المؤسسات. فهل ستستمر هذه المؤامرة، أم سيتمكن اللبنانيون من استعادت قرارهم السياسي والمالي من أيدي الوصاية الأميركية؟


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل