أقلام الثبات
يعد المفتي السابق للجمهورية العربية السورية أحمد بدر الدين حسون أحد أبرز الشخصيات الدينية التي تجسد الحكمة ورجاحة العقل، إذ لم يكن مفتياً لشخص أو لنظام، بل كان مفتياً لدولة وشعب، ملتزماً بمبادئه الدينية والوطنية رغم كل الإغراءات والتحديات التي واجهها.
رفض الإغراءات والضغوط
خلال الأزمة السورية، عُرض على المفتي حسون شيك على بياض من قطر مقابل إعلان انشقاقه عن الدولة السورية، مع ضمان انتقاله إلى قطر برفقة 200 شخص من عائلته. لكن رده كان واضحاً وحاسماً:
"أنا مفتي سورية، ولست مفتي الأسد. ولا أخون بلدي سورية."
لو كان كما زعمت بعض الجهات الإعلامية، وتحديداً قناة الجزيرة، بأنه "مفتي البراميل"، لكان غادر إلى قطر وعاش فيها مكرماً، بل وربما نُصب زعيم مشايخ السنة في الوطن العربي. لكنه اختار أن يبقى حيث ينتمي، ليحمل هموم وطنه ويدافع عن وحدة شعبه.
موقفه من مقتل ابنه سارية
عندما اغتالت الجماعات التكفيرية ابنه سارية حسون، لم يدعُ للانتقام ولم يؤجج نار الفتنة، بل توجه بخطاب سامٍ إلى القيادة السورية، قائلاً:
"أناشدك يا فخامة الرئيس، اصدر عفواً عاماً حتى عن من قتلوا ابني."
هذه الكلمات وحدها تكشف عن معدن الرجل، وعن إيمانه العميق بالمصالحة والتسامح، وهو موقف لا يمكن أن يتبناه إلا رجل دولة حقيقي يؤمن بأن الحرب لا تُطفأ بالنار، بل بالحوار والمغفرة.
إقصاؤه من منصب الإفتاء
ورغم هذه المواقف المشرفة، لم يسلم المفتي حسون حتى من الإدارة الدينية في الدولة السورية، فقد تم إقصاؤه من منصب الإفتاء بقرار رسمي، نتيجة لضغوط ومهاترات قادها بعض العلماء الذين لم يتقبلوا أن يكون مفتي سوريا من خارج دمشق. وبدلاً من تكريمه على جهوده الوطنية والدينية، وجد نفسه محارباً من داخل المنظومة الدينية التي خدمها طيلة سنوات. ورغم ذلك، لم يُظهر أي ضغينة، بل استمر في نشر رسالته في التسامح والوسطية، مؤكداً أن المنصب زائل، لكن المبدأ يبقى.
خطابه في البرلمان الأوروبي
لم يكن المفتي حسون يوماً داعياً للفتنة، بل كان سفيراً للوسطية والتسامح. ففي خطابه أمام البرلمان الأوروبي، قدم صورة مشرفة عن الإسلام، بعيداً عن التطرف والتشدد، وأكد أن الدين الإسلامي دين رحمة وسلام، وليس دين عنف وكراهية.
خطفه على يد الجماعات المتطرفة
ورغم كل هذه المواقف المشرفة، لم يشفع له شيء، فتم اختطافه من قبل عصابات "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، وهي جماعات لا تعترف بالقيم الدينية ولا تحترم المقامات العلمية والدينية.
ولعل المقارنة هنا تكشف حجم الفارق:
حين وصل الإخوان المسلمون إلى الحكم في مصر، لم يقدموا على خطف شيخ الأزهر أو مفتي الديار المصرية بذريعة أنهما كانا من "فلول نظام حسني مبارك"، في حين أن الجماعات المسلحة التي هي من نفس المشرب في سوريا فعلوها، ولم تتوانَ عن اختطاف مفتي البلاد رغم مكانته الدينية والعلمية.
رسالة إلى مراجع أهل السنة
إن ما حدث مع المفتي حسون مسؤولية كل مراجع أهل السنة حول العالم، فاستهداف العلماء المعتدلين لا يهدد شخصاً بعينه، بل يهدد المنهج الوسطي بأكمله، ويدفع الساحة الدينية إلى مزيد من التطرف والانقسام.
ختاماً، المفتي أحمد بدر الدين حسون لم يكن مفتياً لنظام، بل مفتياً لدولة، رجلٌ حافظ على مبادئه، دفع ثمناً غالياً لمواقفه، لكنه ظل ثابتاً على طريقه، متمسكاً بوطنه، ومدافعاً عن الإسلام السمح، ولو كره المتطرفون.