أقلام الثبات
لدى القيادات الدرزية في المحافظات الجنوبية لسورية ما يكفي من الحكمة والحنكة، لتجنيب الطائفة تداعيات الزلزال السوري، ليس فقط نتيجة سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، بل ظروف وصول أبو محمد الجولاني إلى الحكم، وإعلان نفسه رئيساً مؤقتاً لمدة خمس سنوات بسلاح قوى الأمر الواقع التي بينها وبين الدروز ثأر دماء.
وقد تكون مشهديات المجازر التي ارتكبتها فصائل مسلحة، سواء متحالفة مع هيئة تحرير الشام، أو منضوية تحت لواء وزارة الدفاع، بحق أبناء الطائفة العلوية في الساحل، ما يعزز فرضية الرؤية الاستباقية للقيادات الدرزية، التي ما كان مصير مواطنيها أفضل من مصير العلويين، لو كانت هذه القيادات سلَّمت أسلحتها وشرَّعت أبواب القنيطرة ودرعا والسويداء إلى الميليشيات الإرهابية المُبطَّنة بملابس "الأمن العام".
تحت شعار "حفظ الإخوان" الذي يجمع أبناء الطائفة الدرزية أينما كانوا، في سوريا ولبنان وفلسطين المحتلة، أو في المغتربات، فإن العدد الإجمالي لأبناء الطائفة لا يتعدى المليونين ونصف، وسط مجتمعات تعددية لا تتفوق عليهم عددياً فحسب، بل هناك مذاهب تعترف بهم كمسلمين وتيارات متشددة ضمن مذاهب أخرى لا تُصنٍّفهم كذلك، وهذه التفرقة لها سلبياتها عليهم ولكن، في الأزمات والمِحَن يدركون جيداً كيفية حماية خصوصيتهم باسم الدين.
"التطبيع مع الجولان" هو التوصيف الواقعي والصحيح لدروز جنوب سورية، بدلاً من المجاهرة بالتطبيع مع "إسرائيل"، وقياداتهم في فلسطين المحتلة وسورية ولبنان تتبادل الأدوار بذكاء، لا بل بدهاء، انطلاقاً من مبدأ "حفظ الإخوان".
الشيخ موفق طريف في فلسطين المحتلة هو الزعيم الدرزي الأقوى في الوقت الحاضر، وقد أعلن مراراً عبر الإعلام أنه على الدروز أن يكونوا مواطنين صالحين ضمن الدول التي يتبعون لها، وحدد للدروز واجبات المُواطنة لكل شريحة منهم في سورية ولبنان وفلسطين المحتلة، بحيث يخضعون لدساتير وقوانين وولاءات البلدان التي يتبعون لها، مع وجوب الإبقاء على الوحدة في الدين التي تجمعهم أينما كانوا، وهُم بكل بساطة، نظموا رحلة دينية لمشايخ الجنوب السوري إلى مقام النبي شعيب في فلسطين المحتلة، عبر باصات قدِمت من داخل الكيان "الإسرائيلي" وبمواكبة من جنوده.
ولا يتمايز خطاب زعيم دروز سوريا الشيخ حكمت الهجري بشيء عن خطاب الشيخ طريف سوى باختلاف دور كل منهما، كون الشيخ الهجري على جبهة مواجهة ليس مع "الإسرائيلي" الذي يصول ويجول في جنوب سوريا ويبني المواقع العسكرية الثابتة، بل مع الجولاني/ أحمد الشرع، خصوصاً بعد الإعلان الدستوري الذي وقَّعه الشرع في الثالث عشر من الشهر الجاري، وجاء رفض الشيخ الهجري له جازماً وحازماً، وعزز من توجهات أبناء المحافظات الجنوبية الثلاث، عدم التعامل مع حكومة الشرع ومنع دخول أية قوات أمنية أو هيئات إدارية من طرف الحكومة إلى هذه المحافظات.
مواقف كل من الشيخ طريف والشيخ الهجري، قطعت الطريق على بعض قيادات دروز لبنان، لا بل بادر الكثيرون من وجهاء دروز سوريا وبعض النشطاء على مواقع التواصل، إلى توجيه رسائل واضحة بعدم تدخُّل أي قيادي درزي لبناني بالشأن الدرزي السوري، وبصرف النظر عن اللهجة العنيفة التي استخدمها البعض بحق النائب السابق وليد جنبلاط أو الوزير السابق وئام وهاب، فقد جاءت تصريحات جنبلاط في ذكرى استشهاد والده "عروبية كلامية" لا تُصرَف لدى أيٍّ كان من دروز سورية، بينما كان وهاب أكثر صراحة في البوح عن "التطبيع مع الجولان" عندما قال: أنا لا أستطيع أن أدفع 3000 دولار شهرياً لكل درزي يرغب بالعمل في الجولان و"الناس جاعت في سورية".
وسواء أخذ التطبيع الدرزي مع "إسرائيل" صفة "الدويلة الدرزية" مستقبلاً، أم بقيت محافظات الجنوب سورية الهوية ولكن منزوعة السلاح كما يشترط نتانياهو، ومنفتحة في حياتها اليومية على الجولان المحتل، فإن الأمر لا يرتبط بتسويات محلِّية، لأن ما يقلق "إسرائيل" هو الدور التركي داخل سوريا، والقواعد العسكرية التركية المُزمع إقامتها على أطراف محافظة حمص ضمن اتفاقية الدفاع المشترك مع حكومة الشرع، والعمل جارٍ على قدم وساق عبر الاجتماعات الماراتونية في مكان إقامة الخبراء الأتراك بفندق Four Seasons في العاصمة دمشق، ولو أن ما يحصل في الداخل التركي حالياً من اضطرابات على خلفية اعتقال رئيس بلدية اسطنبول والخصم الأقوى لأردوغان أكرم إمام أوغلو، ما قد يُفرمل جزئياً مسألة "عثمنة سورية" وبالتالي يُبعد شبح "صهينة الجنوب السوري" في الوقت الحاضر.