أقلام الثبات
وقَّع الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، مُسوَّدة الإعلان الدستوري الذي حدَّد المرحلةَ الانتقالية في البلاد بـ5 سنوات، يكون خلالها هو الرئيس والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، وهو القابض على كافة المجالس والأجهزة التنفيذية، بما فيها الحكومة، وغير خاضع لمحاسبة أحد، ويكاد يكون "أمير المؤمنين"، ويجوز لبعض الغائبين عن الواقع السوري إلحاق ذكر اسمه بعبارة (رضي الله عنه).
هي مهلة الأشهر الثلاثة التي حدد أحمد الشرع نهايتها في الأول من آذار/ مارس كمرحلة انتقالية، وانتهت في 13 منه بإعلان دستوري من 4 أبواب، ومع إقرار الفصل بين السلطات، أعطى هذا الإعلان رئيس الجمهورية حق تشكيل الحكومة وتعديلها، لجهة التوزير والإقالة، وكذلك تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، دون أن يكون لأية سلطة الحق بمحاسبته في أي شأن كان من منطلق فصل السلطات.
وبردَّة فعل شعبية فورية، انطلقت تظاهرات في القامشلي والحسكة حيث الغالبية الكردية رفضاً لهذا الإعلان، وأنزل متظاهرون في السويداء ذات الغالبية الدرزية علم الثورة السورية الذي اعتُمد علماً وطنياً بعد إسقاط نظام الرئيس الأسد، ورفعوا مكانه علم الألوان الخمسة الخاص بالطائفة.
وجاء توقيع الشرع على هذا الإعلان الدستوري بقلمٍ مُربَك، نتيجة تزامنه مع أحداث واستحقاقات عرقية وطائفية خطيرة، بعد ساعات من المجازر التي ارتكبها الإرهابيون في الساحل السوري بحق العلويين، على مرأى ورعاية وعناية "هيئة تحرير الشام"، وجاء أيضاً بعد ساعات من توقيع قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي اتفاقية مبدئية مع الشرع، على ما يشبه قيام لامركزية تحتاج إلى سنوات من التنظيم، وتزامن ذلك أيضاً مع رسالة من الجنوب السوري، بقدوم 3 باصات من فلسطين المحتلة لنقل مشايخ من الطائفة الدرزية لزيارة مقام ديني داخل الكيان المحتل.
لم يلقَ توقيع الشرع على الإعلان الدستوري ذلك الصدى الدولي، ربما لأن الشرع رأس الحربة الدولية لتمزيق خريطة سورية، وأنه يسير في الطريق المرسومة من جهة، ومن جهة أخرى، لأن مجزرة الساحل بحق العلويين كانت لها تداعيات دولية على ما عداها من أحداث، واستنفر مجلس الأمن لإدانة ما ارتكبه "الإرهابيون الأجانب" من مذابح، مع تحميل حكومة الشرع كامل المسؤولية.
ليست مشكلة الإعلان الدستوري السوري أن الفقه سيكون المرجعية، لأن الدستور السوري السابق كان ينصّ على استلهام "روح الشريعة"، ولا المعضلة هي في النظام الرئاسي وصلاحيات الرئيس، بل الأزمة هي في التوقيت، حيث كل الطوائف السورية تعيش الخوف من الآتي الأعظم، في ظل حكم ميليشيوي مُتفلِّت من كل الضوابط، لدرجة أن عناصر الأمن العام يضعون الأقنعة، ووجوه الإرهابيين الأجانب مكشوفة وتهديداتهم يطلقونها على الملأ بلا خوف ولا وَجَل.
وأهل السُنة في سوريا مستاؤون من التطرُّف، ومن استقدام الأجانب من حَمَلة الفكر التكفيري، ويعتبرون أن مستقبل سوريا مع هكذا نوع من "الإسلام السياسي المتشدد" لا يخدم الأمن المجتمعي ولا السلم الأهلي، وبالتالي لا يسمح بالمخاطرة بأي نوع من الاستثمار مهما كان حجمه، لأن الاستقرار السياسي سيكون مفقوداً على الأقل خلال السنوات الخمس القادمة، التي حددها الشرع للعملية الانتقالية التي قد تنقله لاحقاً إلى رئاسة دائمة شبيهة بولايتيّ الأسد الأب والإبن.
الآراء السُنية الجريئة، لا تعلو عليها نزعة الانفصال الدرزي ولا رغبة الحكم الذاتي الكردي، والمشهديات أمام دوائر الجوازات في مختلف محافظات سورية تطغى عليها بطبيعة الحال الشريحة السُنية، وقال رجل أعمال سوري أمام أحد مراكز الجوازات: أنا لم أفكر يوماً بمغادرة سورية، وانتظرت ما سيحدث بعد الأول من آذار موعد انتهاء العملية الانتقالية، لكني بعد هذا الإعلان الدستوري لست مستعداً للانتظار خمس سنوات.
أمام مراكز الجوازات تتكشَّف المأساة السورية في الرغبة بالهروب من بلد انتقل فيه الإرهاب من الشارع إلى "قصر المهاجرين"، وقالت سيدة سورية طلبت عدم الكشف عن اسمها: أنا سُنية، وفي زمن الرئيس بشار الأسد كان أكثر من 80% من شركاء الحكم والسلطة والجيش من السُنة، لكن ما رأيناه في الثلاثة أشهر الأخيرة لم نشهده على مدى سنوات من حكم الأسد، وسورية التي نعرفها قد انتهت، وأضافت هذه السيدة: بإمكانكم كما ترصدون أعداد الراغبين بجوازات سفر للمغادرة، رصد أعداد العائدين إلى سورية عبر مطار دمشق والمعابر البرية، وهناك سوف يفاجئكم عدم الإقبال على العودة.
وفي المُحصِّلة العامة للوضع السياسي السوري بعد الإعلان الدستوري، تظهَّرت ردود الفعل كالآتي:
- "مجلس سورية الديمقراطي" الذي يحكُم سياسياً قوات سورية الديمقراطية (قسد)، رفض الإعلان الدستوري وأعلن أنه طعنة بحق وثيقة التوافق التي وقَّعها الشرع مع قائد قسد مظلوم عبدي.
- رفضت القيادات الدرزية في محافظات الجنوب، وعلى رأسها الشيخ حكمت الهجري، هذا الإعلان، واعتبرت أن سورية باتت محكومة من جماعات إرهابية ولا اعتراف بحكومة أحمد الشرع ولا التزام بأية مقررات تصدر عنها.
- انتقل الصراع السوري - السوري إلى محافظات الساحل بعد المجازر بحق العلويين التي ارتكبها "الجيش الوطني" الذي يضمّ فصائلاً مثل "العمشات" و"الحمزات" إضافة الى التكفيريين الأجانب، وهذا الجيش المزعوم يتقاضى رواتبه من تركيا ويعمل بتوجيهاتها.
وعلى هامش ما حصل في الساحل، يواجه الشرع إلى جانب فرملة رفع العقوبات عن سورية نتيجة الارتكابات الإرهابية، قيام "مجلس تحرير كامل سورية" بقيادة ضباط من الفرقة الرابعة التي كانت تتبع ماهر الأسد، وعناصر هذا المجلس، اتخذوا من الجبال المحاذية للساحل السوري حصوناً ومراكز انطلاق لعملياتهم، والسنوات الخمس التي أرادها الشرع على قياس أحلامه السلطوية دون التشاور مع المكونات السورية قبل إعلانه الدستوري، لن تكون مفروشة بالورود وياسمين الشام، ومؤشرات نهاية مبكرة لنظام كهذا، أعلى بكثير من مؤشرات البقاء..