أقلام الثبات
يبدو ان الجحيم السوري لا يزال في اولى خطواته بعد ازمتي الغرب السوري - الساحل - والجنوب , والغليان المتعاظم في الشمال , وهو امر ليست بعيدة عنه ايضا العاصمة دمشق , بحيث ان كل المؤشرات والمعطيات تؤكد ان الارهابي القاعدي - الداعشي - النصروي- والهيئوي ابو محمد الجولاني يخسر الاوراق واحدة تلو الاخرى , ويتقلص مدى نطاق سيطرته في الميدان وتتمرد فصائل عدة على اوامره ,سيما انحسار سيطرته المباشرة على بضعة احياء في دمشق , بحيث ان السيطرة الحقيقية تعود لتركيا حيث يتموضع فريقها الاستخباراتي والعملياتي والاداري في الطابق الرابع من فندق "فور سيزون"، وكذلك هناك سيطرة اميركية مهمة في بعض احياء دمشق , مع "دالة" تساوي ان "الدالة" التركية ان لم تكن ازود على الشرع نفسه، تعوضه انقرة بحضورها الاقوى في حكومة الشرع الانتقالية, وهو انتقال غير محدود بزمان, او حتى يجعل الله امرا كان مفعولا .
تجلت "الدالة الاميركية " - وهو الامر الذي ازعج الرئيس التركي رجب طيب اردوغان - بان اقنعت واشنطن عبر فريقها الموجود في دمشق "الرئيس احمد الشرع" بضرورة الاسراع في توقيع الاتفاق مع "قسد"، المنتج الاميركي الخالص من القيادة الى التمويل فالإعداد، وحتى الانفاس اميركية. وقد جاءت الخطوة في ذروة المجازر في الساحل السوري ضد العلويين والمسيحيين , وذلك بهدف حرف الانتظار عن الجرائم الموصوفة والمصورة كجرائم ابادة جماعية لم يسلم منها حتى الرضع, وبالتوازي مع ضغط اميركي على الدول التي تدور في الفلك الاميركي , بان تكون بياناتهم غير مؤذية لجماعة "الهيئة "ومحاولة حصر المسؤولية بجماعة "العمشات" و"الحمزات" وللجنسيات الاخرى من الارهابيين ذات المصدر الاسيوي الذين استقطبتهم تركيا في الاساس .
جاء بيان مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة محاكيا للضغط الاميركي من دون تسمية المجرم ولكنه كالعادة اعرب عن قلقه البالغ من "مآلات العنف" وما يسببه من زيادة التوترات بين الطوائف في سوريا، ودعا إلى وقف فوري لجميع أعمال العنف والتحريض وحث على ضمان حماية جميع المدنيين والبنية التحتية الإنسانية وضمان معاملة إنسانية لجميع الأشخاص، بما في ذلك الذين استسلموا أو وضعوا أسلحتهم، مع التشديد على أهمية مكافحة الإرهاب في سوريا، والدعوة إلى اتخاذ تدابير حاسمة للقضاء على تهديد الإرهابيين الأجانب، من دون تجاهل الدعوة الى وقف التدخلات الخارجية .
ان بيان مجلس الامن لا يعدو كونه مسألة رفع عتب وتحريف الحقائق ,وتشخيص ناقص للحدث الكبير والجلل , وتبرئة لحكام دمشق الجدد من دم الابرياء , وايضا نثر غمامة في العيون عن التدخلات الخارجية ومحاولة زج اسم حزب الله وإيران بانهما خلف الاحداث , سيما وان التدخلات واضحة وهي ثلاثية فاجرة تتكون من تركيا والولايات المتحدة والكيان الصهيوني، حيث تتقاطع هذه الثلاثية في مسائل وتتناقض في مسائل اخرى.
لم يعجب توقيع الاتفاق من جانب الجولاني بطلب اميركي واضح مع "قسد " , السلطات التركية التي شخصت ان الشرع ينفلت من ايديها تدريجيا , ويتموضع مع الحماة الجدد اي الولايات المتحدة ,فأصدرت تعليمات عاجلة للحكومة المؤقتة والتي تملك فيها اكثرية موصوفة, بان تلزم "الشرع" بتوقيع ما سمي ب "الاعلان الدستوري" المدبج في لجنة عينها الشرع بنفسه، وبذات الكيفية التي عُينت بها الحكومة المؤقتة واللجنة التحضيرية لمؤتمر "الحوار الوطني"، دون أن يكون هناك أي "حوار" ولا أي "وطني"، ولا تمثيل حقيقي لجميع أطياف المجتمع السوري على المستوى السياسي والاجتماعي العام في البلاد.
لا يحمل الاعلان الدستوري اي بند يمكن ان يطمئن المجتمع السوري في ظل ما تمر به المنطقة من اعاصير , وانما يفتح الصراع في سوريا على مصاريعه الداخلية والخارجية سيما وان تحديد الفترة الانتقالية بخمس سنوات، وترك البلاد كل هذه الفترة دون دستور دائم ينتج عن مؤتمر وطني عام حقيقي وواسع التمثيل، يرفع منسوب المخاطر والتهديدات التي تواجه الوحدة الوطنية في البلاد، كما يرفع من إغراءات التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة، ويعرقل عملية رفع العقوبات.
لقد تجاهل الاعلان الدستوري كل الشعارات المنمقة والمغرية للاستقطاب لناحية " الثورة الهجينة " ولا سيما تأسيس دولة حديثة ديمقراطية ,تنعم بالحريات , تنتجها انتخابات برلمانية عادلة ونزيهة .كما ان الدستور اللاعصري , حصر غالبية الصلاحيات برئيس يفترض انه مؤقت ما يكرس الهيمنة والاستبداد والسيطرة على جميع السلطات للسنوات الخمس المقبلة على الاقل إذا لم يحدث الامر المتوقع بثورة حقيقية ماحقة تعيد لحمة الشعب السوري , في ظل واقع اقتصادي غير مسبوق .
ان محاولات الشرع في التماهي مع الارادتين الاميركية والتركية , والارتهان المزدوج والتشاطر في الان نفسه لا يمكن ان يستمر لفترة طويلة في ظل تصادم المصالح للدول المؤثرة ,وامام الشرع حاليا وعلى الساخن اختباران في الولاء, ومداه ,وهما متزامنان , الاول اميركي يتمثل في دمج "قوات قسد " التي تقارب مئة الف مقاتل ذات اغلبية من العرب في هياكل وزارة الدفاع , وبعض تلك الفصائل لم تحسم مسألة اندماجها مع اعلان الدستور غير المنصف , ما ينتج مشكلات لا يستهان فيها سواء تلك المتعلقة بالكادرات العسكرية اولا , وبتوزيع المناصب، والتفويض بالمهام والأهداف، والتفاعل بين الهيئات العسكرية المختلفة. ويجب أيضًا حل مسألة سلامة الأسلحة التي تمتلكها التشكيلات الكردية وهي بغالبيتها اميركية واين ستكون موجودة اذ ان تركيا، الا يبلدو انها ستوافق على تخزين هذه الأسلحة على الأراضي السورية، التي تقع على مقربة من حدودها، وستكون هذه قضية حاسمة في تنفيذ الاتفاق والعلاقات المستقبلية بين الأكراد والحكومة السورية، اضافة الى مشكلات اخرى في السياق
المسألة الثانية وهي التركية وستكون في الايام المقبلة محط الأنظار والمتمثلة بإنشاء ثلاث قواعد دفاع جوي تركية على الاراضي السورية , وهذا الامر سيزعج حليفي ك "أعدقاء" في هذا الصراع, اي الاميركي و"الاسرائيلي" , وكلاهما المح الى الانخراط في امكانية التصادم , على الارض السورية , و"اسرائيل" مستمرة في تدمير قدرات سوريا التي باتت بمستوى صفري تحت اعين ومسمع الشرع وجماعته , مع نفي حتى احتمال نية ان يواجه اي عدوان "اسرائيلي" , ما يمكن ان يفتح ابواب الجحيم اوسع من اجل مزيد من التمزيق لسوريا.