أقلام الثبات
كل يوم يظهر أمام العالم مدى أكاذيب الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب، التي تزعم أنها تريد وضع حدٍّ للحروب، لكن العلامة الأكثر وضوحًا هي أنها تسعى إلى إنهاء الحروب بحروبٍ أشدَّ جموحًا، وبلا قيود، عبر السيطرة على مقدرات الدول المستهدفة، سواء بالإذلال أو بالقوة الغاشمة المنفلتة حتى من "القيم" التي وضعها الغرب لنفسه، والعودة إلى ما يُسمى شريعة الغاب، أي البقاء للأقوى من القتلة، في عالم يسوده التوحش والهمجية المطلقة.
إن المشروع "الثقافي" السياسي المذكور، المُحدَّث بأعنف الوسائل التكنولوجية، والمستلهم من النازية والفاشية والصهيونية كحركات عنصرية، يتمظهر في منطقتنا بوجهه البشع، المتمثل في الكيان الصهيوني، الذي تمده الولايات المتحدة الأميركية بكل وسائل الحياة والجريمة، وتحميه، وإلا لما تجرأ قادة الكيان على المجاهرة العملية باستمرار حرب الإبادة والتهجير بحق الشعب الفلسطيني بشكل خاص، والشعوب العربية بشكل عام، التي يجري التحضير المادي لاستهدافها.
في هذا السياق، يقول المحلل السياسي في صحيفة يديعوت أحرونوت، ناحوم برنياع، إن ترامب يسعى إلى إقامة "تحالف الفتوة"، ويضيف: "هذا عالم يمكن لإسرائيل أيضًا الاندماج فيه، فهو عالم يحترم القوة - أي يخضع للقوة - والقوة حاليًا بأيدينا؛ ويحترم السيطرة على الأراضي - أي الاحتلال - والأراضي حاليًا بأيدينا؛ وهو يشمئز من القيم الديمقراطية القديمة، ومن حقوق الإنسان والمعاناة الإنسانية، ومن العدالة والقانون، وهذا الاشمئزاز بأيدينا حاليًا".
وأشار إلى أن "الحكومة الإسرائيلية تسمح لنفسها بتنفيذ خطوات لم يكن أحدٌ ليجرؤ على التفكير فيها خلال فترات ولاية رؤساء أميركيين سابقين، سواء ديمقراطيين أو جمهوريين. والقائمة طويلة: خرق الاتفاق الذي وقعت عليه في إطار صفقة المخطوفين، الاستيلاء على نقاط داخل الأراضي السورية والإعلان عن أننا سنبقى فيها إلى الأبد، التهديد علنًا بالتدخل في المواجهة بين النظام السوري والدروز في بلدة جرمانا قرب دمشق، رغم رفض كلا الجانبين للتدخل الإسرائيلي، السيطرة على نقاط داخل الأراضي اللبنانية خلافًا لاتفاق وقف إطلاق النار، طرد آلاف السكان من مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، في المناطق (A)، والإيعاز للجيش بالاستيطان، منع دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، التنكر للمرحلة الثانية من المفاوضات والتخلي عن 59 مخطوفًا، أحياء وأمواتًا".
لا مجال للشك في أن شعار "إنهاء الحروب" ليس إلا بروباغندا خطيرة تهدف إلى ذر الرماد في العيون وخداع العرب الذين يغضون الطرف، وإلا فما معنى إفراج ترامب عن شحنة قنابل بزنة 2000 رطل، كانت إدارة الرئيس جو بايدن قد جمدتها سابقًا، ليبادر نتنياهو وقيادته إلى شكر الرئيس الأميركي قائلين: "لقد منح إسرائيل الأدوات التي تحتاجها للدفاع عن نفسها، ومحاربة أعدائنا المشتركين". وفي السياق ذاته، صادقت حكومة نتنياهو على "مشروع قانون يسمح للجيش باستدعاء 400 ألف جندي إضافي، للمساعدة في المهام الدفاعية والهجومية الجارية"، وهو عدد لم يجرِ استدعاء مثيله حتى في ذروة الحرب منذ 16 شهرًا، مع الإشارة إلى أن قرار الحكومة يأتي "على خلفية احتمال استئناف القتال في قطاع غزة".
وجاء في مشروع القرار أن "عام 2025 من المتوقع أن يكون، على غرار عام 2024، عام حرب، وأن قطاعات القتال المختلفة، حتى في ظل وقف إطلاق النار المؤقت، تتسم بعدم الاستقرار".
إذًا، لا تزال المنطقة في مهبّ الحرب، التي يُرجَّح أن تكون أعنف مما سبق، والعرب بشكل عام، ولبنان الرسمي بشكل خاص، لا يزالون أسرى المطالبة، تارة بتنفيذ القرار 1701 الذي انتهكته إسرائيل بكل مندرجاته، وتارة يلجأون إلى الصمت المطبق، هربًا من المسؤولية في الدفاع عن الكرامة الوطنية.
لقد كانت بعض الدول الأوروبية غير المتغطرسة تعبّر عن تضامنها مع المظلومين ولو بتحفّظ، وتعارض حرب الإبادة، سواء على المستوى الرسمي أو النقابي أو الثقافي، أما الآن، فإن "أوروبا تواجه عوائق مركّبة وشديدة الصعوبة، بسبب التمزق السياسي وضعف القيادات، والجميع يجد نفسه في مواجهة المنافسة الجيوسياسية المتعاظمة على الساحة الدولية، ما يدفعه إلى الانكفاء نحو الداخل، للحفاظ بشكل مستقل على التوازن، بعدما كان ذلك مضمونًا في السابق من خلال التعاون مع واشنطن، لكن دونه صعوبات جمّة أيضًا".
ومن العوامل الخطيرة التي تؤشر إلى تصاعد سياسة الحروب الأكثر عنفًا وإجرامًا وبلا ضوابط، والتي سيكون ضحاياها الدول التي لا تمتلك روح المقاومة لهذا المشروع الخبيث، هو تمهيد الولايات المتحدة للخروج من عضوية الأمم المتحدة، وهي المنظمة الوحيدة - رغم علّاتها - التي يمكن أن تشتكي الدول المستهدفة لديها.
وقد وقع الرئيس الأميركي أمرًا تنفيذيًا يقضي بإعادة تقييم مشاركة الولايات المتحدة في منظمة الأمم المتحدة، بدعوى أن المنظمة "سيئة الإدارة ولا تقوم بعملها".
كما قدّم السيناتور مايك لي، الجمهوري من ولاية يوتا، مشروع قانون يسمى قانون فك الارتباط تمامًا بكارثة الأمم المتحدة، والذي من شأنه إنهاء عضوية الولايات المتحدة في المنظمة والهيئات التابعة لها، وإنهاء تمويل تلك المجموعات، ومنع إعادة الانضمام إليها دون موافقة مجلس الشيوخ. إضافة إلى ذلك، سيفرض القانون حظرًا على مشاركة الولايات المتحدة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
وقال السيناتور مايك لي: "إن الأمم المتحدة أصبحت منصة للطغاة لشن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها"، مدعيًا أنها تستخدم الأموال الأميركية "لتقويض" المصالح الأميركية وتعزيز قوة خصومها. لكن هذا النقد للمنظمة ليس سوى غطاء على السبب الحقيقي الكامن وراء الانسحاب، ألا وهو التخلص من أي قيد أو التزام دولي يمنع الولايات المتحدة من شن هجومٍ استباقي على دولة عدوة، ربما في الأفق أو في السنوات القليلة المقبلة.
لقد شهد التاريخ حالة مماثلة مهدت للحرب العالمية الثانية، إذ إنه في عام 1933، وبعد أقل من عشرة أشهر من وصول أدولف هتلر إلى سدة المستشارية الألمانية، أعلنت الحكومة الألمانية انسحابها من عُصبة الأمم، وكان السبب الظاهري لذلك هو رفض القوى الغربية الإذعان لمطالب ألمانيا بتحقيق التكافؤ العسكري، حيث أبلغت برلين آنذاك الأمين العام لعصبة الأمم، جوزيف أفينول، بانسحابها من المنظمة، التي قامت الأمم المتحدة على أنقاضها. وقد منحت القيادة الألمانية لنفسها الفرصة لتحقيق مشروعها في السيطرة على أوروبا.
إن الروح التي دفعت هتلر إلى شن الحرب عام 1939، في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك، يبدو أنها تحكم ترامب التوسعي الصفقاتي، ومثله في المنطقة بنيامين نتنياهو، ما يوجب أن يتشكل مشروع مناهض في المنطقة، كي لا تسقط وتُطمس هويتها.