الثبات ـ فلسطين
تدرك فصائل المقاومة في قطاع غزة، أن انتهاء الحرب بصيغتها الحالية لا يعني زوال خطر تجدّدها، ؛ إذ لا كوابح حقيقية تمنع جيش الاحتلال من استئناف القتال بأشكال وأساليب مختلفة.
ففي الإعلام العبري، يظهر بوضوح، رغم الخلافات بين أقطاب المشهد السياسي الإسرائيلي، أن هناك إجماعاً على ضرورة تدمير قدرات حركة «حماس» والفصائل الأخرى، العسكرية والمدنية، مع استمرار الجدل حول الوسائل المناسبة لتحقيق ذلك الهدف، ولا سيما أن خمسة عشر شهراً من العمليات العسكرية المكثّفة لم تنجح في تحقيقه.
وفي هذا السياق، يُنظر إلى المساعدات الإنسانية والبضائع والسيولة النقدية وحتى إمدادات الكهرباء والمياه كأدوات لـ«خنق القطاع»، يمكن اللجوء إليها بعد خروج آخر الأسرى الإسرائيليين. كما يجري التعبير عن الإصرار على تعطيل أي فرصة لإعادة الإعمار واستعادة الحياة المدنية، وهو جوهر ما توفّره خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من غطاء سياسي، يهدف إلى خلق بيئة طاردة للحياة، تدفع الفلسطينيين إلى «التهجير الطوعي».
وفي ميزان القوة، وعلى رغم الخسائر التي مُنيت بها المقاومة، فإن بنيتها التنظيمية لم تنهَر، إذ جرى تعويض القادة الذين استشهدوا خلال القتال بآخرين قبل دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، كما لم يتوقّف المدد البشري لـ«كتائب القسام» و«سرايا القدس»، وإعادة التجنيد والتدريب. غير أن الفجوة التي أحدثتها العمليات البرية المكثّفة والقصف الجوي العنيف في المقدرات العسكرية ومخازن السلاح لا يمكن تجاهلها، حيث لم تعد المقاومة تملك الإمكانات نفسها التي مكّنتها طوال أكثر من عقدين من فرض قواعد اشتباك أرغمت الاحتلال على الانضباط خلال فترات التهدئة.
وتجلّى ذلك بوضوح في تراجع القدرات الصاروخية، ما يعني أن العدو، في حال قرّر استئناف سياسة الاغتيالات الجوية أو تنفيذ عمليات توغّل محدودة، لن يدفع ثمناً باهظاً على غرار ما كان عليه الوضع سابقاً، أي لن تُصاب مستوطنات «غلاف غزة» ومدن العمق بحالة شلل تام، ولن تكون هناك خسائر إسرائيلية ثقيلة. ومع هذا، يدرك الجيش الإسرائيلي أنه خرج من هذه الحرب، في غزة ولبنان، منهكاً وبحاجة إلى إعادة تأهيل طويلة، وهو ما تعترف به الأوساط الإسرائيلية.
أما في ما يتعلّق بالسيناريوات المحتملة، فإن المقاومة تواجه عدة خيارات إسرائيلية، أوّلها العودة إلى سياسة الاغتيالات الجوية، حتى لو تسبّبت في مجازر بين المدنيين في حال توفّر «هدف ثقيل»، ما سيؤدّي إلى استنزاف طويل الأمد، وإعادة المقاومة إلى مرحلة التخفّي والمطاردة، مع اضطرارها لتنفيذ هجمات مضادّة تؤدي إلى اشتباك مضبوط. ثانيها، عمليات الاغتيال الصامتة عبر تنشيط العملاء أو القوات الخاصة، ولا سيّما إذا تمكّنت إسرائيل من استهداف شخصية نوعية في مناطق حدودية توفّر بيئة آمنة للانسحاب، أو استغلال كثافة دخول الوفود الدولية إلى القطاع، وهو ما سبق أن فعله «الشاباك» خلال عملية اغتيال القائد في «كتائب القسام»، مازن فقهاء. أما السيناريو الثالث، فيتمثّل في شنّ عمليات برّية مكثّفة في مناطق محدّدة، على غرار ما يقوم به جيش الاحتلال في مدن الضفة الغربية المحتلة ومخيماتها.
وعلى رغم توصية المستوى الأمني الإسرائيلي للمستوى السياسي بالتوجّه نحو المرحلة الثانية من الصفقة أو تمديد المرحلة الأولى، فإن المقاومة تُعدّ نفسها لكل السيناريوات. ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» أن «حماس» عينت قادة جدداً لجناحها العسكري، كما نشرت وحدات مرابطة لمراقبة تحرّكات الجيش الإسرائيلي على طول الحدود، وأعادت جمع الذخائر والصواريخ غير المنفجرة، وتدويرها لصناعة عبوات وأسلحة بدائية تحسّباً لاحتمال استئناف القتال. وفي المقابل، ثمة تقديرات متفائلة بأن الحرب انتهت بلا رجعة، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، يسعى إلى إبقائها قائمة بالاسم فقط، حفاظاً على تماسك ائتلافه الحكومي، بينما يشكّل الضغط الأميركي عبر الإعلان عن «خطة ترامب» محاولة لدفع الدول العربية إلى تقديم مبادرات بديلة لإعادة الإعمار وضمان الهدوء المستدام، بما يفضي إلى إخراج «حماس» من مشهد الحكم والتأثير في مستقبل القطاع.