أقلام الثبات
لم تمضِ 72 ساعة على ما أجمعت وسائل الإعلام على تسميتها "قنبلة ترامب"، حتى تظهَّرت التداعيات في أوساط إدارة ترامب نفسها وإدارة نتانياهو بعينها، مروراً بعواصم العالم قاطبةً، وتراوح مستوى هذه التداعيات، بين الإرباك الذي عاشته دوائر البيت الأبيض والبنتاغون على ما اعتبرته قراراً ارتجالياً مفاجئاً من الرئيس باستملاك غزة وجعلها "ريفييرا الشرق الأوسط"، الى الفوضى العارمة في تل أبيب التي أحدثها وزير الدفاع بمباشرته وضع الخطط التنفيذية للهجرة "الطوعية" لنحو مليوني مواطن غزاوي، وردود فعل قيادة وضباط الجيش "الإسرائيلي" ومعهم رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية "أمان"، الذين اعتبروا أن مجرد الإعلان عن وضع خطط تهجير طوعي سيضع الجيش "الإسرائيلي" أمام حرب حتمية بمواجهة الجيش المصري، ليس فقط بسبب الرفض المصري القاطع لقرار ترامب، ولا الموقف العربي الموحد، بل، نتيجة المواقف الدولية الرافضة لما اعتبرتها تصرفات "بهلوانية" مرفوضة جملة وتفصيلاً، خصوصاً من الدول الكبرى، وفي طليعتها روسيا وبريطانيا وفرنسا والصين، والتي أجمعت مواقفها على أن هذه الفكرة هي إطاحة بكل القرارات الأممية، وإنهاء للقضية الفلسطينية ولحلّ الدولتين.
لعل كلمة "بهلوانية" هي أفضل توصيف لقرار ترامب، ونتانياهو الذي كان يجلس بجانبه ويبتسم له ببلاهة، لم يهنأ بابتسامته لأكثر من 48 ساعة، لأن مشهدية حماس العسكرية الاستعراضية عندما كانت تُطلق سراح ثلاثة رهائن "إسرائيليين"، ضمن الدفعة الخامسة من المرحلة الأولى يوم السبت الماضي، روَّعت نتانياهو وأرعبت كل "الإسرائيليين" معه، لدرجة أن المعارض يائير لابيد، طالب بإرسال وفد التفاوض إلى الدوحة لإطلاق جميع الرهائن "الإسرائيليين" فوراً ودفعة واحدة، بدلاُ من الدفعات والمراحل كما هو حاصل منذ اتفاق وقف إطلاق النار.
التخبُّط "الإسرائيلي" سبقه تخبُّط أميركي؛ عندما سارع مسؤولو إدارة ترامب إلى مواكبة خطة الرئيس المفاجئة، التي تهدف إلى جعل الولايات المتحدة تتولى ملكية غزة، وذكرت شبكة "سي إن إن" الأميركية أن فكرة ترامب بَلوَرها على مدار الوقت وفقاً لأشخاص مطَّلعين على الموضوع، وقد انبثقت من الرئيس نفسه، وأوضحت أن ما حصل هو مجرد تذكير آخر بأن الأفكار السياسية غالباً ما تبدأ من ترامب، بدلاً من أن تُبنى ببطء عبر خبراء وطنيين قبل مناقشتها في البيت الأبيض، واعتبرت "سي إن إن" أنه وبغض النظر عن كيفية ظهور الفكرة، فإن كشفها جاء صادماً، وقد أثار الإعلان عنها العديد من ردود الفعل المفاجئة، خصوصاً من أعضاء الكونغرس الجمهوريين.
وجاء كشف ترامب عن خطته في المؤتمر الصحفي بشكل مفاجئ، حتى لمستشاره لشؤون الشرق الأوسط، الذي لم يسمع عن الاقتراح حتى سمعه للمرة الأولى كما كل الحاضرين في مؤتمر ترامب، وأشار إلى أنه كان في حالة من الذهول بعد الإعلان، فيما أكَّد آخرون أن الفكرة كانت قد نوقشت في الأيام السابقة، بعد أن زار المبعوث الأميركي للشرق الأوسط وصديق ترامب، ستيف ويتكوف، غزة، وأطلع ترامب على الحالة المأساوية للقطاع، وحذَّر ويتكوف من أن المنطقة أصبحت غير صالحة للسكن بسبب الدمار الهائل، ما أثار اهتمام ترامب بقوة، وبدا توصيف ويتكوف لرحلته وكأنه نقطة تحوُّل مُتَسرِّعة في فكر الرئيس.
وفي حمأة محاولات الدائرة الضيقة لترامب "ترقيع" الثوب الذي قرر إلباسه لقطاع غزة، بعد أن تقضي "إسرائيل" على حماس، وتسليم القطاع لأميركا، دون الحاجة لإرسال قوات أميركية إلى هناك، تسبب ترامب برفع أربعة متاريس عربية في وجهه، تستدعي منه إرسال قواته لخوض الحرب التي سوف يتورَّط بها، هو الذي إدَّعى مراراً أنه آتٍ لوقف الحروب وليس لإشعالها.
أولاً، المتراس المصري: وصلت الأمور بالرئيس عبد الفتاح السيسي إلى تجيير الموقف لمئة وعشرة ملايين من شعبه، برفض استقبال أي فلسطيني على الأرض المصرية، وكرر صراحة، أن نقل سكان غزة إلى خارجها بذريعة إعادة الإعمار يجب أن يَتمّ إلى صحراء النقب وليس إلى سيناء، مع التأكيد على أن إبقاءهم في القطاع لا يُعيق أعمال تأهيل البنى التحتية والأبنية السكنية.
وتجيير السيسي هذا المأزق التاريخي لشعبه، قبل سفره إلى واشنطن في الثامن عشر من الجاري بناء على دعوة استدعاء من ترامب، تعني تكبير متراس المواجهة مع "إسرائيل" وأميركا، لاسيما أن الكرسي الرئاسي المصري يقبع على صفيح "الإخوان المسلمين" والسلفيين، الكفيل بإحراق مصر عند أية "نعم" يقولها السيسي لخطة ترامب.
ثانياً، المتراس الأردني: هو الأكثر هشاشة من كافة المتاريس العربية، لجهة الضعف السياسي والوضع الاقتصادي الذي يتطلب على الدوام "عطاءات" أميركية، لدرجة أن طرح الأردن كوطن بديل للفلسطينيين منذ عقود يجعل من موقف الملك عبد الله أكثر حرجاً من موقف السيسي، خصوصاً أنه "استُدعي" إلى واشنطن لمقابلة ترامب في الحادي عشر من الجاري، أي قبل أسبوع من "مثول" السيسي أمام ترامب، وعلى زيارته يبني السيسي على الشيء مقتضاه.
ثالثاً، المتراس السعودي: ردَّة فعل المملكة جاءت سريعة على طرح ترامب، برفض أي شكل من أشكال التطبيع مع "إسرائيل" في حال الإقدام على أية خطوة لتهجير الفلسطينيين تحت أية ذريعة كانت، بما فيها موجبات إعادة إعمار غزة، وسط الحديث عن فرملة جزئية للاستثمارات التي وعد بها الأمير محمد بن سلمان بزيادتها في أميركا بعد انتخاب ترامب.
رابعاً، المتراس الفلسطيني: يُدرك الفلسطينيون أن وحدة "القوى والفصائل" لديهم هي المطلب الذي لم يتحقق، حتى في ذروة تعرضهم لأشنع عدوان دفعوا خلاله الثمن من شهداء ومفقودين وجرحى ودمار زلزالي لم يتعرضوا له من قبل، وأن بضع عشرات من الرهائن الصهاينة هم سلاحهم الباقي، سواء في مواجهات القطاع أم الضفة الغربية، وإلا، ما كان هناك ما يردع إسرائيل عن تطبيق "خطة الجنرالات" في غزة، ولا إعادة احتلال الضفة الغربية كما يجاهر الوزير العنصري بتسلئيل سيموترتش، لكن الجديد أن 76% من "الإسرائيليين" الآن يؤيدون فكرة تهجير الفلسطينيين من القطاع والضفة الغربية، بما يعني، أن "أوسلو" لم يبقَ منها سوى الحبر والورق، وأن المقاومة هي السبيل الأوحد عبر سلب إسرائيل أمنها، سواء في قلب تل أبيب، أو في مستوطنات الضفة الغربية، وخلاف هذا الطرح، لا بقاء للقضية الفلسطينية، ما لم يبقَ بأيدي الفلسطينيين ما يحرم الصهاينة الأمن والاستقرار حتى تحقيق حلّ الدولتين.