إملاءات القناصل… ومشروع الدولة _ عدنان الساحلي

الجمعة 17 كانون الثاني , 2025 02:44 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات
أبرز نتائج ما جرى خلال الأسبوعين الماضيين، ان اللبنانيين لفترة طويلة من الزمن سيرتاحون من نفاق السياسيين ومتزعمي الطوائف، في تغنّيهم بالسيادة والكرامة الوطنية، باستثناء تلك الثلة التي قاتلت واستشهد الكثير منها، في مواجهة الغزاة اليهود الصهاينة ومن يدعمهم.
فأحداث الأيام الأخيرة ليست مما يمر عليها مرور الكرام، بل ستكتب في تاريخ لبنان محطة في عمليات الانقلاب السياسي، لكن ليس كما يروج أتباع السفارات وأصحاب المواقف المدفوعة الثمن بأنها لصالح مشروع إحياء الدولة في لبنان، بل هي انقلاب لجعل الزمن يسير إلى الخلف، بما يخدم الوظيفة التاريخية التي أنشئ الكيان اللبناني لأجلها، بعكس مسيرة التاريخ وطبيعة التطور.
وأغرب ما في هذه الأحداث، أن البعض يستغرب وقائعها وكأنه لم يطلع على تاريخ لبنان والمنطقة، أو أن ما جرى جديد على مسار الأحداث اللبنانية، منذ أن بدأت فكرة إقامة كيان في جبل لبنان.
وليس سهلاً أن يشاهد اللبنانيون وكل من يتابع الشأن اللبناني، سفراء وموفدي الدول المتسلطة، بأساطيلها أو بأموالها، يتولون تركيب قوالب الحكم والسلطة؛ ويقررون من هو رئيس لبنان ومن هو رئيس حكومته، فيما معظم اللبنانيين يتقبلون ذلك بأقل قدر من الاعتراض، ليس قبولا بما يحصل، بل نكاية ببعضهم البعض وخضوعاً لأوامر الخارج. وقد سبق ذلك الإذعان - الفضيحة إعلان معظم القوى السياسية والنيابية، عن نواياها بترشيح أسماء مختلفة للمنصبين المذكورين، وعندما جاءت إملاءات العصا الأميركية وحقائب المال السعودي، غيرت اكثرية النواب مواقفها التي كانت اشهرتها قبل ساعات، ومعظم اللذين اقترعوا لصالح رئيس الجمهورية الجديد، كان لديهم مرشحوهم لهذا المنصب، وبعضهم رشح نفسه، أو سرب رغبته بالجلوس على كرسي بعبدا، والأمر نفسه بالنسبة لرئاسة الحكومة، وعندما جاءت إملاءات الخارج، سار هؤلاء بكل مطواعية والتزموا برغبة سفارات دول حاملات الطائرات وأمراء المال.
والواقع أن تاريخ لبنان المزوّر في معظمه بحاجة إلى إعادة قراءة، هذا إذا أراد اللبنانيون أن يتحرروا من صراعاتهم بفعل فتن الدول وتنازعها على النفوذ؛ وأن يقيموا وطناً ودولة وليس مشروعاً سياسياً له وظيفة غربية تشبه وظيفة الكيان "الإسرائيلي".
واللافت أن يتجاهل المتغنون بـ"قطعة السما"، أن فتنة 1840، ثم 1860 جاءتا مباشرة بعد فشل حملة نابوليون على مصر وفلسطين؛ وبعدها حملة حاكم مصر حينها، محمد علي باشا؛ وانتصاره على "رجل أوروبا المريض"، دولة الخلافة العثمانية. فكان أن تدخلت الدول الأوروبية الست المعروفة؛ وانقذت السلطنة (عدوتها التقليدية) من الانسحاق أمام جيش محمد علي؛ وأنزلت جيوشها على ساحل بلاد الشام، المعروف حالياً بلبنان، مقابل تنازلات عثمانية لم يعلن عنها، لكن التطورات أكدتها، ومنها تجاهل هجرة اليهود إلى فلسطين؛ وبتنفيذ فكرة إقامة دولة للموارنة، بسلخ جبل لبنان عن دولة الخلافة، عبر نظام المتصرفية، الذي ترأسه متصرف أوروبي. ولذلك، جرى تزوير التاريخ في ما سمي "ثورة الفلاحين"، أو حروب وحملات ولاة الشام على جبل القنيطرة، فالجبل المذكور لم يكن يسكنه في ذلك الوقت غير الشيعة. وتلك الحروب جرت لاقتلاع الشيعة من جبل لبنان، لأنهم الطائفة التي تنبأ أحدهم بـ"انها ستنقرض" لأنها لا تحظى بحماية أي دولة نافذة. ولم تستهدف تلك الثورة وتلك الحملات أبدا الطوائف الأخرى. فللموارنة "أمهم الحنون" وحاميتهم فرنسا؛ وللأرثوذكس روسيا وللدروز إنكلترا؛ والسنة هم طائفة السلطة الحاكمة، أي الدولة العثمانية. وبعدها جرى توسيع المتصرفية بسلخ أجزاء من سورية، بقوة الجيوش الفرنسية، التي أعلن مندوبها السامي ولادة "لبنان الكبير".
وهذا العرض البسيط، ضروري لمعرفة سبب الحملة على المقاومة وسلاحها، فما يجري في المنطقة هو إعادة الاعتبار لمشاريع التقسيم والتفتيت بعد الذي جرى في سورية، بهدف تكريس وجود الكيان "الإسرائيلي" كأمر واقع، مع كل مشاريعه التوسعية والإحتلالية؛ وكذلك لتجديد وتكريس دور لبنان الوظيفي في خدمة النفوذ الغربي. وأول رئيس للجمهورية في لبنان بشارة الخوري، كان عندما يتحادث مع مندوبي الوكالة اليهودية، كان يقول "فلسطين اليهودية ولبنان الماروني". وتجارب الحكم في لبنان وصراعاته المتكررة، بينت أن الحل لمشاكله لا يأتي عبر إحلال تسلط طائفة مكان طائفة اخرى، بل بالقبول بحلول دولة المواطنة مكان مزرعة الطوائف. وهذا المسار جاء بعد ترقي كل ابناء الطوائف في تحصيل العلم والثروات ولم يعد ممكناً تصنيفهم فئة أولى وفئة رابعة، لذلك يتم الانقلاب على التوازن الذي أقامته المقاومة وسلاحها، فوجود هذا السلاح يمنع التطبيع مع العدو "الإسرائيلي" أو الاعتراف بكيانه غير الشرعي. كما يحمي اللبنانيين من تغول النفوذ الأجنبي، الذي يريد إبقاء لبنان خادماً للمشاريع الغربية ولو على حساب تقاتل أبنائه، بدلاً من تحوله إلى وطن يتساوى فيه أبناؤه في الحقوق والواجبات، بما يناقض الواقع "الإسرائيلي" العنصري.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل