حقائق عن التصوف....مقام الصدق

الأربعاء 15 كانون الثاني , 2025 05:59 توقيت بيروت تصوّف

الثبات- تصوف

لا بد للمريد الطالب سلوك سبيل النجاة والوصول إلى الله تعالى من أن يتحقق بصفات ثلاث: الصدق والإخلاص والصبر، لأن جميع صفات الكمال لا يتحلى بها الإنسان إلا إذا كان متصفا بهذه الصفات الثلاث، وكذلك لا تتم الأعمال إلا بها، فإذا فارقت الأعمال فسدت ولم تنل القبول

ولما كان الباعث على العمل الصالح والترقي في مدارج الكمال هو الصدق؛ نبتدئ بالكلام عليه أولا، ثم بالإخلاص ثانيا، ثم بالصبر ثالثًا

لقد ذهب العلماء في تقسيم الصدق مذاهب شتى، فمنهم من أسهب في التفصيل والتفريع، ومنهم من سلك مسلك الاقتضاب والإيجاز فقد ذكر حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى للصدق معان ستة فقال: "اعلم أن لفظ الصدق يستعمل في ستة معان: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها، فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صدّيق:

١ - صدق اللسان: يكون في الإخبار، وفيه يدخل الوفاء بالوعد والخلف فيه وقيل: في المعاريض مندوحة عن الكذب

٢ - صدق في النية والإرادة: ويرجع ذلك إلى الإخلاص؛ وهو أن لا يكون له باعث في الحركات والسكنات إلا الله تعالى

٣ - صدق في العزم على العمل لله تعالى

٤ - صدق في الوفاء بالعزم بتذليل العقبات

٥ - صدق في الأعمال: حتى لا تدل أعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف به

٦ - الصدق في مقامات الدين: كالخوف والرجاء والتعظيم والزهد، والرضى والتوكل والحب"

وأما القاضي زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى فقد ذكر للصدق محلات ثلاثة فقال: "الصدق هو الحكم المطابق للواقع، ومحله اللسان والقلب والأفعال، وكل منه يحتاج إلى وصف يخصه، فهو في اللسان: الإخبار عن الشيء على ما هو عليه  وفي القلب: العزم الأكيد  وفي الأفعال: إيقاعها على وجه النشاط والحب  وسببه: الوثوق بخبر المتصف، وثمرته: مدح الله والخلق للمتصف به"

ومفهوم الصدق عند عوام المسلمين قاصر على صدق اللسان، ولكن السادة الصوفية قصدوا بالصدق مفهومه العام الذي يشمل بالإضافة إلى صدق اللسان صدق القلب وصدق الأفعال والأحوال

قال العلامة ابن أبي شريف رحمه الله تعالى في حواشي العقائد: "الصدق استعمله الصوفية بمعنى استواء السر والعلانية والظاهر والباطن بألاّ تكذب أحوال العبد أعماله، ولا أعماله أحواله" فالصدق بمفهومهم هذا، صفة ينبعث منها العزم والتصميم والهمة على الترقي في مدارج الكمالات، والتخلي عن الصفات الناقصة المذمومة

والصدق بهذا الاعتبار سيف الله تعالى في يد السالك يقطع به حبال العلائق والعوائق التي تعترض طريقه في سيره إلى الله تعالى، ولولاه لما استطاع أن ينطلق في مدارج الترقي ولكان معرّضا للوقوف والانقطاع

قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: "إنّ صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية، ومقامات السالكين إلى الله، ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم، لا إله غيره ولا ربّ سواه"

فإذا تحلى السالك بالصدق استطاع أن يسير بخطى سريعة نحو مراتب الإيمان العالية، إذ هو القوة الدافعة والمحركة، وهو الصفة اللازمة لكل مقام من مقامات السلوك إلى الله تعالى 

فأول مراحل السير هو صدق العبد في إنابته إلى ربه بالتوبة النصوح التي هي أساس الأعمال الصالحة، وأول درجات الكمال والصدق في تهذيب النفس الأمارة، يحقق النجاح الكبير في التخلص من أمراضه وشهواتها، ويطهر القلب من الخبائث حتى ينتهي إلى الإيمان الذوقي الذي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: ((ذاق طعم الإيمان))  

والصدق في محاربة الشيطان والتخلص من وساوسه يجعل المؤمن في نجاة من كيده وأمان من شره، كما يجعل الشيطان في يأس وقنوط من إضلاله وغوايته والصدق في إخراج حب الدنيا من القلب يحمل الإنسان على المجاهدة المستمرة بالصدقة والإيثار والتعاون الخيري، حتى يتخلص من حبها وينجو من سيطرتها على قلبه والصدق في طلب العلم تخلصا من الجهل وتصحيحا للعمل، يحمل الإنسان على الاستقامة والمثابرة، وتحمل المشاق وسهر الليالي كي ينال منه أوفر نصيب وأكبر قسط، وما نبغ العلماء إلا بصدقهم وإخلاصهم وصبرهم والصدق في العمل هو ثمرة العلم وغايته، إذ يجعل العبد في ارتقاء دائم، ويجعل علمه سببا في كماله، ولا بد من إخلاص في ذلك، وإلا قد يدخل على السائر بعض العلل الموقفة له عن مطلوبه من حب الشهرة والسمعة والالتفات إليها ... فالإخلاص في الصدق يزيل هذه الشوائب من طريق الغاية المنشودة وهي رضاء الله تعالى ومعرفته ومحبته ومن هنا تظهر أهمية الصدق وعظيم آثاره، ولذلك اعتبره الحق سبحانه أرفع الدرجات بعد النبوة والرسالة، قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: "الصدق عماد الأمر وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو تالي درجة النبوة"

 قال الله تعالى: {ومَنْ يُطِعِ الله واَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ واَلصِّدِّيقِينَ واَلشُّهَداءِ واَلصّالِحِينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقًا}

ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين أن يلازموا أهل الصدق ليستفيدوا من حالهم وينتفعوا من صدقهم فقال:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا الله وكُونُو مَعَ اَلصّادِقِينَ}

ووصف الله تعالى الصادقين بالقلة، وأنهم الفئة المختارة من المؤمنين فقال:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْهِ}

وقال معروف الكرخي رحمه الله تعالى مشيرا إلى قلة الصادقين: "ما أكثر الصالحين وأقل الصادقين في الصالحين!" كما ندّد الله تعالى بالمنافقين الذين لم يصدقوا في إيمانهم وعهدهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:{فَلَوْ صَدَقُوا الله لَكانَ خَيْرً لَهُمْ}  

وقد أخبر الله تعالى أن العبد يوم القيامة يجني ثمار صدقه، ويكون صدقه سبب نفعه ونجاته فقال:{هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} وقد اعتبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم الصدق سبيلا موصلا إلى البر الذي يشمل كل الفضائل والكمالات التي تؤهل العبد لدخول الجنة، كما جعل دوام الاتصاف بالصدق مفتاحا لنيل مرتبة الصدّيقية فقال:((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا))  

وقد أوضح الرسول عليه الصلاة والسّلام أن الصدق يثمر طمأنينة القلب وراحة الفكر، بينما يسبب الكذب حالات من القلق والاضطراب والشك وعدم الاستقرار، فقد روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة))

وليس الصادقون بمرتبة واحدة، بل هناك الصادق، وأعلى منه الصّديق  قال أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: "أقل الصدق استواء السر والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصّدّيق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله"

 ورتبة الصدّيقية في نفسها مراتب متفاوتة، بعضها أعلى من بعض، وقد نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذروة سنام الصديقية، وشهد الله تعالى بذلك فقال:{وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ}  ولا يعلو مقام الصديقية إلا مقام النبوة، فمقام الصديقية مقام الولاية الكبرى والخلافة العظمى، وهذا المقام تترادف فيه الفتوحات وتعظم التجليات وتتم المشاهدات والكشوفات لكمال النفس وحسن صفائها

الخلاصة

إن من يعمر باطنه بالصدق والإخلاص، تجري حركاته وسكناته على حسب ما في قلبه؛ فيظهر الصدق في أحواله وأقواله وأعماله، لأن من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها

قال العلامة القرطبي رحمه الله تعالى: "حقّ على كل من فهم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال، فمن كان كذلك لحق بالأبرار، ووصل إلى رضاء الغفار" فعليك أيها المريد أن تكون صادقا في أقوالك لأن الكذب من صفات المنافقين قال عليه الصلاة والسّلام: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذ ائتمن خان))

وكن صادقا في طلب الوصول إلى الله تعالى، فالمقاصد العالية لا تنال بالتشهي، لذلك قيل: "لا ينال الوصول من كان في قلبه شهوة الوصول" بل يناله بالجد والاجتهاد

وعمّر قلبك بالصدق لتنبعث منه الهمة والنشاط في سيرك إلى الله تعالى

 وتحقق بالصدق إن قلت يا          الله فالصدق وجهه مقبول

وعليك بالصدق في عهدك مع مرشدك ودليلك إلى الله تعالى حتى يكون ذلك عون لك على ترقيك وسرعة وصولك

وكن صادقا في موافقتك لربك أمرا ونهيا وفي اتباعك لرسوله صلّى الله عليه وسلّم حتى تتحقق بالعبدية لله تعالى، فهي أمنية السالكين لربهم في جميع مراتبهم ومقاماتهم.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل