عسكرة لبنان لإلغاء مقاومته _ عدنان الساحلي

الجمعة 20 كانون الأول , 2024 04:16 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات
​يتهرب الساعون للجلوس على كرسي رئاسة الجمهورية والداعمون لهم، من دول وقوى وفاعليات، من الاحتكام لرأي اللبنانيين في انتخاب رئيس لجمهوريتهم، عبر الاقتراع الشعبي المباشر، بعدما بات واضحاً (رغم دعايات وادعاءات السياديين الفارغة) أن القرار الفعلي في اختيار الرئيس اللبناني العتيد هو للخارج؛ وتحديداً للأميركي والفرنسي والسعودي؛ وقد ينضم التركي إليهم، بعدما بات هو الحاكم الفعلي في سورية؛ الجارة الأقرب للبنان، وبوابته إلى البلاد العربية.
​وقد تنوب قطر عن تركيا، إذا شعرت هذه الأخيرة بالإحراج من التدخل الفج في الشأن اللبناني، ما دامت ميليشياتها ومسلحوها لم يدخلوه بعد، بعدما اجتاحوا سورية واستباحوها.
​وتنشر وسائل الإعلام، في ما يشبه الإعلان والتبليغ أنه "أثناء زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للمملكة السعودية ولقائه ولي العهد – رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان، توافقت رؤية الرجلين على ترشيح قائد الجيش العماد جوزاف عون لرئاسة الجمهورية اللبنانية، الذي يحظى بدعم أميركي، وتقرر إبلاغ الحلفاء من القيادات اللبنانية (أو الأتباع، لا فرق) هذا القرار".
​وللمصادفة، فاجأ قائد "هيئة تحرير الشام"، حاكم دمشق الحالي أحمد الشرع، الإعلاميين، بالقول "نحن ندعم التوافق على انتخاب قائد الجيش العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية"، على الرغم من أن الشرع لا يعرف الرجل ولم يسأله أحد رايه بهذا الشأن.
​إذا، هو قرار أميركي - فرنسي - سعودي يتم إبلاغه للبنانيين، وما على الأتباع (الزعماء) إلا التنفيذ، في جلسة انتخاب شكلية لمجلس النواب، يؤمنون فيها 86 صوتاً نيابياً (نصاب الثلثين)، في اجتماعهم المقرر في التاسع من الشهر المقبل، وإذا لم يتم جمع العدد المطلوب، يتم الانتخاب بالأكثرية في الجلسة الثانية، مادامت الجلسات ستكون مفتوحة، أي 65 صوتاً، فالقرار اتخذ وما على المعنيين إلا التنفيذ.
​هذا الأمر الذي بات حديث الناس والمنتديات والإعلام، قبل ان يكون إساءة للبنان ولكل الكلام عن السيادة والاستقلال وحرية القرار، هو إساءة بالغة لقائد الجيش العماد جوزاف عون، فالرجل كقائد للجيش، مهمته الدفاع عن لبنان وكرامته وسيادته واستقلاله، قبل كل شيء، لكن حواريي تلك الدول؛ وبعض المتحمسين لدفع عون إلى هذه المعمعة، ربما من دون أخذ رايه، يلوحون بان عهده سيكون شبيهاً بعهد القائد الأسبق للجيش اللواء فؤاد شهاب، فيما يقول آخرون أن عهد عون، في حال وصل إلى كرسي قصر بعبدا، سيكون عهد محاربة الفساد ومطاردة الفاسدين، متجاهلين حقائق تلك المرحلة ووقائع تركيبة النظام والحكم في لبنان، بما يجعل وعودهم احلاماً تعاكس الواقع وتتبخر عند أول اختبار.
​فاللبنانيون يعلمون أن المشكلة هي في النظام وليست في الأشخاص. ولما واجه هذا النظام أزمة مستعصية، يلفق له أصحاب القرار الدوليون والإقليميون حلولا ترقيعية، لإطالة عمره، بما يفضح دور مدعي "السيادة والحرية والاستقلال"، باعتبارهم مجرد حكام وكلاء عن الأجنبي، في نظام وظيفي استنفد أغراضه وبات يعاني سكرات الموت.
​ولذلك، يعاني لبنان كل ست سنوات، من مفاعيل نظام المحاصصة الطائفية، الذي أنشأه الانتداب الفرنسي منذ مائة عام، وبات مجرد عجوز تستجدي الدعم والمساعدة من الخارج، فهو يعجز عن حل أزماته بنفسه، كما تعجز "فاعلياته" عن الالتقاء والتحاور، للتفاهم على حلول لمشاكل شعبه. وهذا النظام الطائفي الذي يرتكز على محاصصة، هي كمؤشر حالة الطقس، تتقلب كلما تبدلت التوازنات الإقليمية أو الدولية، فتعكس حالها على توازنات الداخل وتخلط الأوراق، في انتظار تسوية برعاية خارجية تعيد توزيع الأنصبة والأدوار، والذين يروجون "لشهابية" عهد جوزاف عون، إذا نجحت مساعيهم، ينطلقون من تشابه الظروف ويسعون لذات الرهانات، التي لو نجحت حينها، لما كان لبنان على ما هو عليه.
​جاء عهد شهاب باعتباره قائداً للجيش، لإعادة بسط سلطة الدولة إثر ثورة شعبية مسلحة، عام 1958، احتج فيها قسم من اللبنانيين على محاولة الرئيس الأسبق كميل شمعون، ضم لبنان إلى حلف بغداد الأميركي، الذي كان أبرز اعضائه تركيا العضو في حلف الاطلسي، إيران الشاه محمد رضا بهلوي وبغداد الملكية وحاكمها الفعلي نوري السعيد.
​سلك شهاب في حكمه سبييلين، الأول: إصلاح الإدارة ومواجهة الفساد المعشش فيها، فاصطدم بالطبقة السياسية الحاكمة وأطلق عليها اسم "أكلة الجبنة"، لكنها تغلبت عليه وجعلته يرفض التجديد لرئاسته، وغاب شهاب وغابت معه الشهابية وما يزال الفساد حاكما في البلاد.
​أما السبيل الثاني، فكان أمنياً لإخراج لبنان من تداعيات الثورة المسلحة تلك، إذ إن قائد الجيش ليس لديه حزب أو حالة شعبية تسنده، لذلك استند نظامه إلى مخابرات الجيش، وهكذا كانت الشعبة الثانية العسكرية هي الذراع الفعلية للحكم الشهابي؛ وهي أداته في جمع المؤيدين وتسييرهم.
​وحقيقة الحقبة الشهابية، أنها كانت انعزالية مقنعة، مثلما وصفها بعض المقربين منها. ومنهم كتاب ومفكرون معروفون بإعجابهم بالتجربة الشهابية؛ وبعضهم كان من كتاب خطب رئيس ذلك العهد. فالشهابية في عز مسايرتها لمصر جمال عبد الناصر، كانت الراعية الفعلية للأحزاب اليمينية الانعزالية المتطرفة، التي اعتبرت المرحلة الشهابية مرحلة انتقالية استفادت منها لمحاولة السيطرة على السلطة والقرار في لبنان، بهدف حسم الصراع القائم فيه منذ إنشاء نظام المتصرفية لصالحها، عبر إشعال الحرب الأهلية عام 1975. كانت الزعامة الشعبية لليمين الانعزالي، معقودة للرئيس الراحل كميل شمعون، لكن الرعاية الشهابية جعلت من حزب الكتائب القوة المسيحية اليمينية المنظمة الأولى.
​وحتى تنشر الشهابية وشعبتها الثانية سلطتها وتتخلص من الاصطفاف الوطني والإسلامي خصوصاً، خلف الزعامة الناصرية، افتعلت مشاكل وفتنا عدة، إحداها "الحرب" التي نشبت في ستينيات القرن الماضي، بين عشائر الهرمل وعشائر بلدات جرد عكار، فنيدق وجوارها، في صراع تافه حول من يملك "تلة عروبة". وسقط قتلى وجرحى كثيرون، خلال صدامات كان يصطف فيها آلاف المسلحين من كلا الجهتين، في مناصرة لكل من طرفي تلك "الحرب". وكان زعيما المنطقتين المتصادمتين مواليان للشهابية ومن أصحاب المواقع الرئاسية فيها. وكانا يرعيان اجتماعات المتقاتلين كل من جهته. فيما كان مكتب العشائر برئاسة بطرس عبد الساتر هو من يحرك ويمول تلك الفتنة.
​لذلك، تبدو البصمات الأميركية واضحة في ما يجري. فالأميركيون يضعون ثقلهم للهيمنة الكاملة على لبنان، منذ العام 1958، عندما شكلوا ما يسمى "النقطة الرابعة" لتكون موطئ اقدامهم ومكانا لقواعدهم في البقاع وعلى الحدود مع سورية. ونجحوا حالياً، بالتعاون مع الحكومات وقيادة الجيش في جعل مطار حامات قاعدة عسكرية اميركية. وبعد الحرب "الإسرائيلية" التدميرية ضد لبنان، التي رغم كل وحشيتها، فشلت في الدخول إلى مدن وبلدات الجنوب اللبناني، كما فشلت في القضاء على مقاومة حزب الله، استقوى أعداء المقاومة في الخارج والداخل، ليعتبروا أن الفرصة أصبحت متاحة لاستكمال الهيمنة الأميركية وفرض سيطرتها على كامل مفاتيح السلطة والحكم، طريقاً ووسيلة للتخلص من المقاومة؛ ولتحقيق ما عجز عنه الجيش الصهيوني. وما السعي لتكريس عسكرة الحكم في لبنان، إلا خطوة لمحاولة دفع الجيش لمواجهة المقاومة.
​وقد جرب الأميركي وسائل عدة لتحقيق مشاريعه، حرّك الشارع وزور إرادته، في انتفاضته ضد حكومات الفساد؛ وحاول توجيه الغضب ضد المقاومة. وحرّض وموّل، لكنه فشل هذه المرة عبر القوة "الإسرائيلية"، مثلما فشل عام 2006 في القضاء على المقاومة. وآخر رهاناته محاصرتها من الداخل والخارج. ولذلك علينا توقع ما يحضّره لنا الأميركي وحلفاؤه من فتن ومشكلات تعودنا عليها ولن يكون مصيرها أفضل من سابقاتها.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل