أقلام الثبات
كل ممنوع مرغوب… أمر متعارف عليه منذ أن وجدت المجتمعات البشرية، لكن أن يصبح الأمر عقداً نفسية تعطل العقل والإدراك؛ وتمنع التمييز بين المفيد والصالح من جهة؛ وبين الضار والمسيء للإنسان من جهة ثانية، فهذه قضية أصبحت حالة مرضيّة يعاني منها ويستخدمها مروجو الثورات والانقلابات في مختلف الدول العربية.
والواضح أن حب التقليد والغيرة التي تنهش نفوس القابعين في ظل أنظمة شمولية، ليست بالضرورة طريقهم للانتقال من حالهم التي يشكون منها إلى حال أفضل، وربما ليست هي الحل الأنسب لمشاكلهم، لأن لكل مجتمع وبيئة خصوصيات، وكما بينت أحوال بعض الدول العربية، التي أغرى التغييريون والانقلابيون شعوبها، لتنسخ ما يستهويها أو يغريها مما لدى شعوب الأقطار الأخرى، أو للقبول بما كانت ترفضه تلك الشعوب في ظروف مختلفة، أن ما طرأ على تلك الشعوب كان تراجعاً إلى الخلف، بينما القصد كان تحصيل التقدم والمعافاة من المعاناة، فكانت النتيجة تعميقاً وتوسيعاً للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها تلك الشعوب.
وتأتي تجربة مصر نموذجاً في الانفتاح الاقتصادي الذي مارسه حكم أنور السادات، تنكرا منه لتجربة ثورة يوليو/ تموز، التي كان السادات أحد قادتها، فإذا بالتغييرات الساداتية تضرب كل انجازات حكم جمال عبد الناصر؛ وتزيد من البطالة والفقر ومن حجم الديون العامة، وتضرب القطاع العام، الذي كان عصب الاقتصاد، ووسيلة الدولة للتصنيع وتحقيق التنمية والاستقلال الحقيقي، وكان البعض هناك يتطلع إلى تجربة لبنان في الازدهار الشكلي، الذي شهده في ستينيات القرن الماضي، لكنه لم ير بقية المشهد اللبناني، حيث المناطق المهمشة والمحرومة؛ ومظاهر الفقر التي دفعت كثيراً من اللبنانيين إلى الهجرة والاغتراب بحثاً عن عمل ولقمة عيش، والطبقة السياسية والاقتصادية التي نشرت ذلك الازدهار الزائف في لبنان، هي نفسها، عبر وريثيها وأحفادها ومؤسساتها ومصارفها، نهبت أموال الخزينة العامة بمشاريع الهدر وتعهدات المحاصصة، وهي التي سرقت أموال المودعين من المصارف، مستغلة الأمر الأميركي بتجفيف لبنان من العملات الصعبة، من ضمن تواطؤها مع الإجراءات الأميركية لإخضاع اللبنانيين لمشاريع التطبيع مع العدو "الإسرائيلي".
وطبقة الانفتاح الاقتصادي في مصر، فعلت الشيء نفسه وأفقرت مصر وجعلتها تنوء تحت ديون تعجز عن إيفائها، كما جعلتها عاجزة عن حماية شريان حياتها نهر النيل، الذي تتصرف فيه أثيوبيا بشكل أحادي، لا يحمي حقوق مصر والسودان فيه، وكذلك عطلت دور مصر الوطني والقومي، إلى درجة جعلها تقف متفرجة على الإجرام الصهيوني في غزة؛ كما جعل سلطاتها تتعامى عن الاستفزازات "الإسرائيلية"، على الحدود المصرية وانتهاكها خط فيلادلفيا.
ومشكلة بعض العرب أنهم يتطلعون بهوس وجهل للحصول على ما يشكوا منه اللبنانيون، فاللبنانيون دفعوا تضحيات ودماء في تظاهراتهم ومطالبتهم بإقامة جامعة وطنية، كما قدموا شهداء للحصول على ضمان اجتماعي وعلى فرض حد أدنى للرواتب، وكذلك على نشر التعليم الرسمي المجاني أو شبه المجاني، وتظاهروا مطالبين بتعريب المواد العلمية، وناضلوا ضد تسلط السفراء الأجانب على مواقع السلطة والدولة، في حين قام التغييريون في مصر ولبنان بضرب هذه المكتسبات، تحت شعارات التغيير والثورة.
والأمر نفسه سارت عليه المملكة السعودية في نهج "الانفتاح" الذي تعتمده هذه الأيام. فأراضي الحجاز المقدسة عند المسلمين، باتت مقراً للمراقص وحفلات التعري والمجون، وبات لباس البحر جزءاً من فولوكلور حفلات الصيف السعودية، وآل الشيخ - وهم أحفاد محمد بن عبد الوهاب مؤسس الدعوة الوهابية - هم أنفسهم يتولون كنس التزمت الذي زرعه جدهم، وما زاد لدى جدهم ينقص لديهم، و"الزائد أخو الناقص" كما يقال، وفي الحالتين فإن الإسلام الصحيح هو ضحية الجد والأحفاد، وفي معظم هذه السقطات يبدو الجميع يتحرق غيرة من النموذج الانفتاحي اللبناني، في حين أن كل لبناني صاحب كرامة وعزة نفس يرفض لبنان ما قبل الحرب، لبنان الماخور والكباريه القائم على الشاطئ، ملتقى الجواسيس الذين يتآمرون على هذا البلد أو ذاك، حتى عراق ما بعد صدام حسين، صدام الذي وصل إلى الحكم بقطار أميركي، حسب وصف أحد قادة حزبه، هو عراق الفساد والنهب والإثراء السريع، على حساب فقر الشعب وحرمانه من أدنى الخدمات مثل الماء النظيفة والكهرباء وغيرها، كما هو عراق المحاصصة الطائفية، في تشبه مريع بالطبقة السياسية "المنفتحة والمتحررة" التي تحكم لبنان.
وليس غريباً أن تجد في سورية الجديدة، المنقلبة على بشار الأسد، من يعتبر أن ثراء اللبنانيين وامتلاكهم سيارات حديثة هو أحد اسباب ثورتهم، كما أن "الحرية" المتوفرة للبنانيين، هي مطلب للسوريين، لكنهم سيكتشفون بعد فوات الأوان، أن القمع الذي اشتكوا منه، سيئ بقدر سوء حكم الفاسدين الذين يديرون الشأن اللبناني، وأن ما يطلبونه لبلادهم ليس إلا سراب، طالما أنهم وغيرهم من العرب، لا يدركون أننا جميعاً واقعون بين مطرقة الديكتاتورية وسندان الجواسيس، وأن الخلاص يكون بالتحرر من فكي هذا الحصار؛ وليس بالتعلق بواحد لإعلاء آخر سرعان ما يبدأ بعده الندب والعويل.