أقلام الثبات
قد يكون القادم على سورية أخطر من أن تستوعبه التحركات الشعبية العفوية التي رافقت سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وإعلان حزب البعث تجميد كامل أنشطته، وتسليم كافة مقدراته وممتلكاته إلى "إدارة العمليات العسكرية".
وسواء اعتبر البعض أن انهيار الجيش السوري وانسحابه من المدن والأرياف "سلمياً" هما من قبيل حقن الدماء، أو اعتبر البعض الآخر أن هذا الجيش شعر بأنه يدافع عن "نظام" وليس عن وطن، فإن الانقلاب السياسي المفاجئ جاء صاعقاً، رغم "ثورة" طويلة دامت ثلاثة عشر عاماً.
تداعيات هذا "الانقلاب" ستتظهَّر في سورية خلال محاولة النهوض لبناء دولة على قياس "الثوار"، وهي الآن موحَّدة افتراضياً عبر التدابير الحكومية المؤقتة لمدة ثلاثة أشهر، وتجميد عمل مجلس النواب خلال الفترة نفسها، ووضع "هيئة تحرير الشام" والفصائل المتحالفة معها تحت أمرة وزارة الدفاع، وإعادة إحياء المؤسسات العسكرية والأمنية، دون أن نأخذ في الحسبان أن هناك فصائل انصهرت ضمن "هيئة تحرير الشام" لإسقاط النظام، وقد تفترق عنها خلال البحث عن نظام بديل، هذا إذا لم تظهر "داعش" من جديد وتنسف كل الحسابات على الحدود العراقية - السورية وتعود بالبلدين إلى منطق دولة "الخلافة" المشوَّهة.
والحقيقة المُرَّة التي ستتكشَّف في الوقت القريب، أن الشعب السوري الذي أجمع على الاحتفال بسقوط نظام الأسد لن يكون مُجمِعاً على خلافته بهذه السهولة، لأن البدائل المطروحة تتراوح بين دولة علمانية تراعي حقوق الطوائف الدينية، ودولة إسلامية قد لا تكون على نهج "طالبان"، بل أقرب إلى "الإسلام السياسي" التركي، والهوَّة واضحة بين الفريقين: فريق يقوده أبو محمد الجولاني/ أحمد الشرع، الذي خلع العمامة الراديكالية الدينية لصالح بذلة السلطة المدنية، ويحاول ببراغماتية هادئة تشريب الناس بالملعقة أن سورية الجديدة "العادلة" ستكون لكافة السوريين، بينما هناك فريق "أصولي" في العرق والدين، يرغب بقلب الطاولة لصالحه بالكامل، بعد حكم أقلية دينية علوية لأكثر من نصف قرن في بلد غالبيته من الطائفة السنية.
الأخطر من التجاذب العلوي - السني الذي يبقى محصوراً في الداخل، أن هناك "معضلة" أقلية عرقية كردية في الشمال الشرقي متمسكة باللامركزية، للظفر بالحكم الذاتي على النسق العراقي، وهذه لطالما استجرَّت العدوان التركي على سورية، وأقلية درزية في القنيطرة والسويداء جنوباً، لطالما طالبت بمراعاة خصوصيتها المذهبية وجيرتها مع دروز الجولان المحتل، وتنحو أيضاً لحكم ذاتي رغم أن هذا المنحى يريح العدو الصهيوني ويكرِّس وجود عازل ديمغرافي له داخل الأرض السورية.
وإذا كان الوضع ما زال الآن في مرحلة فوضى الاحتفالات، قبل الخوض في فوضى الاستحقاقات، فليس "اليوم التالي" مرتبطاً بالوضع الاقتصادي، أو الهمّ المعيشي، بقدر ما هو خوف من الاهتزاز الأمني عند كل نقطة تماس سياسية، خصوصاً أن "إسرائيل" توغَّلت حتى الآن في الجنوب السوري مساحة 180 كلم مربع بين القنيطرة وسفح جبل الشيخ، بذريعة الحفاظ على أمنها في المنطقة العازلة، وأمعنت في ارتكاب مئات الغارات الجوية لتدمير معدات وعتاد ومستودعات الجيش السوري، والشعب يتباهى بتدمير التماثيل، والجار التركي في الشمال لا أمان معه بذريعة العداوة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)؛ ذراع حزب العمال الكردستاني، ويحتاج على الدوام داخل الأرض السورية إلى عازل ميليشيوي تابع له يفصل الأكراد عن الحدود مع تركيا.
كبيرة هي المعاناة السورية، لأن سورية كبيرة، وقاصرٌ عن القراءة كل مَن يعتقد أن اجتثاث نظام عمره نصف قرن هو كما "قلعة شوكة"، وبصرف النظر عن أخطاء النظام التي يحاول الخصوم تظهيرها بمشهديات تدمي القلب عن السجناء والمخفيين، فإن الخوف من الآتي يجب أن يتهيَّبه الشعب السوري، وأن يضع التجربة الليبية نصب عينيه، علماً أن ليبيا ليس فيها تعدد طوائف، ولا تعدد أعراق، ولا تعدد توجهات سياسية عقائدية، ولا عداوات خارجية متجاورة حدودياً كما هو الواقع السوري، ومع ذلك فشلت ليبيا في إملاء الفراغ الدستوري على مدى ثلاثة عشر عاماً، مع استحضار عنف التقاتل الداخلي عند كل محطة سياسية، ونخشى على سورية من التجربة الليبية.