الثبات- إسلاميات
بعد أن يتحقق السالك بمقام التوبة والرجوع إلى الله لابد له من أن يراقب نفسه ويحاسبها
والمحاسبة تكون بتهيئة الوازع الديني في النفس، وتربيتها على تنمية اللوم الباطني الذي يجردها من كل ما يقف أمامها في طريق الصفاء والمحبة والإيثار والإخلاص
وللصوفية في هذا المقام قدم راسخة وجهاد مشكور، وهم على أثر الرسولﷺ ينهجون منهجه، ويهتدون بهديه قالﷺ: ((الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني)) ومن حاسب نفسه لا يترك لها سبيلًا إلى الاشتغال بالباطل، إذ هو يشغلها بالطاعات، ويلومها على التقصير مع الله تعالى خشية منه، فكيف تجد سبيلًا إلى اللهو والبطالة؟! قال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله: (من الخشية تكون المحاسبة، ومن المحاسبة تكون المراقبة، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى)
وما أشبه حال الصوفية في هذا بما كان يأخذ به النبيﷺ أصحابه من تربية روحية خالصة تغرس في نفوسهم اللوم الباطني؛ فقد روي أن رسول اللهﷺ خرج يومًا من بيته، يطوي بطنه على الجوع، فالتقى بصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعلم منهما أن أمرهما كأمره، وأنهما لا يجدان قوت يومهما، والتقى بهم رجل من الأنصار، لم تخدعه بشاشتهُم، فعلم أمرهم فاستضافهم، فلما وصلوا إلى منزله وجدوا تمرًا وماءًا باردًا وظلّا ورافًا، فلما تبلغوا بتمرات وشربوا من الماء، قالﷺ: ((هذا من النعيم الذي تُسألون عنه))
أي نعيم هذا حتى يُسألوا عنه، ويُحاسبوا عليه؟! بضع تمرات، وجرعة ماء تنقع الغليل، يعتبرها الرسولﷺ من النعيم الذي يسألهم ربهم عنه يوم القيامة أليس في هذه اللفتة الكريمة من الرسولﷺ نفحة ترمي إلى طبع النفس بطابع الوازع القوي والإحساس المرهف والشعور الدقيق والتبعة الكبرى والمسؤلية الضخمة في كل تصرف تهدف إليه النفس بين حين وآخر؟
وإن المحاسبة لتثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواه، فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ماوجد عبثًا، وأنه لا بد راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول اللهﷺ: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ماقدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) فينبثق من قلبه الرجوع الاختياري بالتوبة النصوح، ويترك الشواغل الفانية التي تشغله عن خالقه تعالى، ويفر إلى الله من كل شيء قال تعالى: {ففروا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبين} ففرَّ مع تلك الفئة المؤمنة الصوفية في سفرهم إلى الله تعالى، مجيبًا هواتف الغيب: {يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا من الصدقين}
وإنــمــــــا الــقـــــــوم مــســـافـــرونــــا
لـــحـــضــــرة الـــحـــق وظـــاعــنـــونـا
فآواهم المبيت في حضرته الكبرى، وأكرمهم الجناب الأقدس بتلك العندية التي ينشدها كل محب لله تعالى: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: الغفلة عن محاسبة النفس توجب غلظها فيما هي به، والتقصير في مناقشتها يدعو لوجود الرضا عنها، والتضييق عليها يوجب نفرتها، والرفق بها معين على بطالتها فلزم دوام المحاسبة مع المناقشة، والأخذ في العمل بما قارب وصح، دون مسامحة في واضح، ولا مطالبة بخفي من حيث العمل، واعتبر في النظر تركاً وفعلاً واعتبر في قولهم: من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وإن الثبات في العمل زيادة فيه
ومِنْ ثَمَّ قال الإمام الجنيد رحمه الله: (لو أقبل مقبل على الله سَنة ثم أعرض عنه لكان ما فاته منه أكثر مما ناله)