أقلام الثبات
ليل الجمعة / السبت من الأسبوع الماضي، كانت مفاجأة ثلاثية الأبعاد وغير سارة لجماعة الرهانات في لبنان، سواء لجهة الصمود السيادي على حافة القرى الحدودية في الجنوب، أم لتصريح رئيس أركان الجيش الصهيوني بقُرب انتهاء العملية البرية، أم لجهة الضربة "الإسرائيلية" الشكلية لإيران، وبعض هؤلاء المراهنين لا يُدركون وقائع المواجهات البرية والسقوف السياسية التي تضعها "إسرائيل" دورياً وفق معطيات كل مواجهة، من شمال الليطاني إلى شمال الأولي، ثم إلى إبعاد المقاومة عشرة كيلومترات، ثم خمسة، فثلاثة، ولا لدى هؤلاء المراهنين قدرة التمييز بين قارة بحجم إيران تترامى على مساحة أكثر من مليون وستمئة ألف كيلومتر مربع، وبين كيان يقبع على 22 ألف كيلومتر، ورغم هذه المعطيات، تطلع حفنة من السياسيين، لتبحث بشؤون لبنان "ما بعد حزب الله"، ونحن نعتقد أنهم على عجلة من أمرهم، لأن حزب الله ليس مدفعاً وصاروخاً وبندقية، بل هو نحو مليون ونصف المليون لبناني، وهو بالنتيجة عقيدة دينية وإيديولوجيا سياسية، ورؤية وطنية سواء اتفقنا معها أو اختلفنا.
قد يكون من الأفضل لبعض السياسيين المستعجلين انتظار نتائج الميدان، لأن حساب حقلهم قد لا ينطبق على حسابات البيدر، خصوصاً أن حساباتهم ضيقة، تماماً كما كانت في العام 2006, مع تسجيل مفارقة؛ أنهم الآن قد حملوا "سكاكين السلخ" على شريكٍ في الوطن، في الوقت الذي يشهد لبنان نزوح ربع سكانه على الأقل ونحن على أبواب الشتاء، حيث قد يتضايق المُضيف والمُستضاف على حدٍّ سواء، ولكن تجربة احتواء اللبنانيين للبنانيين هي معمودية وطن، وهي حكماً لها إيجابيات مستقبلية، شرط أن يبقى "الطابور الخامس" رجله مقطوعة عن الدخول، ويده عن التدخُّل، ولسانه عن نشر الفتنة المجانية، ومن واجب كل العقلاء قطع دابره.
ولنكون أكثر واقعية في مقاربة المحيط الإقليمي المرتبط بلبنان، فإن ما لم يقرأه اللبنانيون بمختلف أطيافهم ومعهم بعض العرب، أن الصلح الذي تمّ في شهر آذار/مارس من العام 2023، بين السعودية وإيران، وَضَع الدولتين في معسكر رفض أية حرب شاملة، دون التنازل - سياسياً - عن حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته، وكانت لهذا الصلح خلفياته المشتركة؛ السعودية ترغب بشرق أوسط آمن يجعل منه أوروبا جديدة، يطمح إليه الأمير محمد بن سلمان ويُعلن عنه، ويتناغم مع خطة 2030 التي بدأت تباشيرها من خلال الإصلاحات الاجتماعية الجريئة التي أقدمت عليها المملكة، في حين أن إيران تحتاج إلى مرحلة سلام مع محيطها على الأقل، للانعتاق من الحصار الذي دام عقوداً وبات خانقاً على المستوى الاقتصادي، ولذلك يُستحسن من اللبنانيين كونهم يتأثرون بسياسات هاتين الدولتين الإقليميتين، التأقلم مع انعكاسات الصلح السعودي - الإيراني على الساحة اللبنانية، والتوقُّف عن ترويب البحر لأنه لن يُنتج لهم اللَّبن.
وفي هذا السياق تحديداً، أدانت الدول الخليجية الهجوم الجوي الذي شنته "إسرائيل" ضد إيران، وهي السعودية وقطر والإمارات والبحرين وعُمان، ومعها الأردن، وأصدرت بيانات إدانة واستنكار لهذه الهجمات، ومنعت الطائرات "الإسرائيلية من استخدام مجالها الجوي لضرب إيران، مما يعكس مواقف سياسية تتماهى مع مصالحها السياسية وأمنها القومي، فيما توجَّه العراق بشكوى إلى مجلس الأمن حول انتهاك "إسرائيل" لسيادته، عبر استخدام أجوائه لقصف مواقع إيرانية، فيما بعض الفرقاء اللبنانيين اندهشوا من هذه المواقف وكادوا يبدون استنكارهم العلني لهذا التغيير العربي تجاه إيران.
النقطة الثانية التي تحكُم المسار السياسي الداخلي في لبنان، هي في القرار 1701، الذي لم تطبقه "إسرائيل" منذ صدوره عام 2006، خاصة من خلال الخرق الجوي، بينما هناك فئة من السياسيين اللبنانيين تعتبر أن المقاومة هي التي ترفض تطبيقه.
أما وأن البحث في تطبيق القرار 1701 يتم عبر المبعوث الأميركي آموس هوكستين الذي يستعد للرحيل عن منصبه كمبعوث رئاسي، فإن اللبنانيين يختلفون على القرار، وفئة منهم تطالب بتطبيق القرار 1559 معه، ونزع سلاح حزب الله أسوةً بكل الميليشيات، بينما يذهب البعض إلى تأييد تعديل القرار 1701، وإصداره بصيغة جديدة أسمُوها (1701+)، بما يعني أن المشكلة في تطبيق القرارات الدولية قد انتقلت من الأمم المتحدة ومن تل أبيب، لتنتهي "قتال ونقار" بين اللبنانيين.
ولأن الوضع ضبابي، لا بل لأن دخان المعارك يحجب الرؤية، من الأفضل عدم التصادم بين فاقدي الرؤية في لبنان، لأن قدر اللبنانيين العيش معاً في كل الظروف، ومهما كانت تداعيات الحرب، فإن الشعب اللبناني أوعى من أن تتلاعب به عصبيات جماعات الفدرلة الفارغة وكانتونات عُلب السردين، وطروحات مَن تاريخهم يشهد بأنهم عملاء كل المواسم، ولبنان لن يكون بأيدي حفنة، لا يتعدى تعدادها أصابع اليد الواحدة.