أقلام الثبات
هناك آراء داخل "إسرائيل" وخارجها تفيد بأن النصر لا يتحقق عن بُعد، والأرض لا يحررها سوى مَن ينزِل الأرض، ولدى "إسرائيل" التطور التكنولوجي الهائل؛ من سلاح الجو والدفاعات الرادارية، إلى قدرات الحرب الإلكترونية والسيبرانية بكل أشكالها وأحدث أساليبها، لكن يجب الفصل بين النجاح التكتيكي وبين تحقيق الأهداف الاستراتيجية، خلال عام من عملية "طوفان الأقصى".
ننطلق في التحليل البسيط من اقتراح وزير الأمن القومي الصهيوني إيتمار بن غفير في قوله منذ يومين: "يجب تدمير منازل المخرِّبين، وإصدار قانون لترحيل غير الموالين لدولة إسرائيل".. ونتساءل: إذا كان التكتيك "الإسرائيلي" هو في قتل وجرح عشرات الآلاف من المدنيين وتهجير مئات الآلاف بين غزة والضفة الغربية ولبنان، فهو قد نجح، لكن بداية تحقيق الاستراتيجيا تكمن في تقنية التطبيق: الى أين يرحل مليونا فلسطيني من غزة وأربعة ملايين من الضفة الغربية، ونحو مليون ونصف لبناني على الأقل، كي تشعر "دولة إسرائيل" بالأمن و"السيادة"؟
هنا، نجد أنفسنا نمارس خطأ "الاجترار" لو تحدثنا عن مسألة "اليوم التالي"، التي يتداولها "الإسرائيليون"، سواء كانوا موالين لائتلاف حكومة نتانياهو أو معارضين لها، ويتداولها أيضاً الغرب وعلى رأسه أميركا، عندما يُبحث أمر كيفية تحقيق "ترانسفير" لشعوب ترفض مغادرة أرضها تحت أي ظرف، حتى ولو كان كل ما تملكه هذه الشعوب، خيمة نايلون، أو سقف من الصفيح، أو حتى العراء.
انتصرت "إسرائيل" تكتيكياً في غزة، إذا كان القتل والتدمير والتهجير انتصارات، وانتصرت تكتيكياً في الضفة الغربية عبر تأليب العنصريين الصهاينة على الفلسطينيين، وقتلت وهجَّرت وصادرت أراضٍ زراعية ومراعٍ وموارد مائية، وتعتقد أنها قد تنتصر في لبنان تكتيكياً إذا استطاعت تحويل الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية إلى ما يشبه غزة، ولكن، لم تحقق "إسرائيل" هدفاً استراتيجياً واحداً لغاية الآن، لا في غزة، ولا في الضفة ولا في لبنان.
لا هي استعادت الرهائن أحياء، ولا قتلت القيادة في حماس رغم اغتيالها لقيادات، ولا استطاعت تفكيك الهيكلية التنظيمية واللوجستية والإدارية لحماس، ولن تتمكن من "اصطياد" كل من هو "حمساوي" من ضمن مليوني فلسطيني لم ولن يغادروا غزة، واستراتيجية تهجيرهم غير موجودة سوى في تعبير "اليوم التالي" الفضفاض، مع رفضهم الانتقال إلى سيناء، أو القبول بكل مكائد الترانسفير، وصمد بعض أبناء شمال القطاع لغاية الآن أمام أخطر هدف استراتيجي "إسرائيلي"، بإفراغ كامل المنطقة شمال محور نتساريم من أهلها بموجب "وثيقة الجنرالات"، لجعل هذا الشمال انطلاقة لبناء المستوطنات الصهيونية والمنشآت السياحية على المتوسط، مع تداول وسائل الإعلام أخباراً عن مستثمرين إماراتيين في هذا المجال، بدليل أن نتانياهو وجد نفسه مُلزماً من على منبر الأمم المتحدة، بإنكار نوايا حكومته الإقدام على هذه الخطوة.
وبصرف النظر عن الخسارة الجسيمة في البشر والحجر على امتداد قطاع غزة، فإن حماس بعد مرور سنة على عملية 7 أكتوبر، حققت النصر الاستراتيجي، لأنها نفضت الغبار عن القضية الفلسطينية وأحيتها بدماء التضحيات، وأعادتها إلى المنابر الدولية، وأشعلت بها الشوارع الجماهيرية الغربية حتى في قلب الولايات المتحدة وبريطانيا، وعاد حل الدولتين إلى الواجهة، حداً أدنى للتفاوض بوجود مليوني فلسطيني في غزة وأربعة ملايين في الضفة.
وانتصرت حماس ومعها فصائل أخرى في الضفة الغربية أيضاً، لأن السلطة في رام الله قبل 7 أكتوبر، كانت قد أوصلتها اتفاقية أوسلو وتجاوزات السلطات الصهيونية، إلى أن تكون أداة تنفيذية شبه منسجمة مع ما يريده الاحتلال، وبالتالي، قطاع غزة المحاصر انتفض على "مسجونيته" المؤبدة، والضفة الغربية انتفضت على جوارها من المستوطنات الصهيونية غير الشرعية وغير القانونية، والنتيجة بعد سنة من العدوان الصهيوني، لا حل في القطاع والضفة سوى بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، كما اشترطت القيادة العليا في المملكة العربية السعودية لبحث أي تطبيع مستقبلي مع الكيان "الإسرائيلي"، والمملكة هي أولى الدول المحورية التي كان نتانياهو يراهن على انضمامها إلى دول التطبيع قبل العدوان، وحمل اسمها مؤخراً عبر خارطة الشرق الأوسط الجديد إلى الأمم المتحدة، وكأنه يحمل في جيبه خطة التطبيع معها، ضمن أهداف استراتيجية الشرق الأوسط الجديد.
على الجبهة اللبنانية، يعتمد العدو الصهيوني “عقيدة الضاحية”، التي ابتدعها غادي آيزنكوت، الذي كان قائد الجبهة الشمالية عام 2006، وغدا لاحقاً رئيساً للأركان، هذه العقيدة الإجرامية، نجحت في التدمير والتهجير والاغتيالات، خصوصاً في الضاحية، ولكن، مهما بلغت ارتكابات العدو بهذه "العقيدة"، نتساءل: هل يستطيع عبر التوغل البري مواجهة أهل العقيدة الإيمانية لشعب يحيي عبر أجيال ومنذ 1400 عام، ذكرى عاشوراء للشهيد الحسين (عليه السلام)؟ وهنا الجواب عند هذا العدو، الذي ولو نجح في تكتيك الإبادة في لبنان كما في غزة، فهو مهزوم مهزوم على المستوى الاستراتيجي، لأنه بهدف إعادة مستوطني شمال فلسطين المحتلة إلى مستوطناتهم، يتهيأ للهجوم البري، ومددت المقاومة في لبنان لغاية الآن مساحة الاستهداف إلى ما بعد حيفا، ولا عودة للحياة إلى الشمال الفلسطيني المحتل قبل وقف إطلاق النار، وعلى المُنظًرين للعقائد في الكيان المحتل الذين نجحوا في التطوير التكنولوجي، أن يعوا الواقع الجغرافي المحيط بكيانهم، وإذا كان طوفان الأقصى يندرج ضمن إطار انفجار القهر الفلسطيني، فإن الحروب العدوانية التي تشنها إسرائيل، أوجدت لها عداوات إقليمية أبدية ولن تستطيع ضمان أمنها الذي تطمح إليه..