أقلام الثبات
بتاريخ 23 أيلول 2023، أي قبل أسبوعين من عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول أكتوبر الماضي، وقف بنيامين نتانياهو على المنبر في الدورة 78 للأمم المتحدة، حاملاً خارطة "إسرائيل" باللون الأزرق على كامل فلسطين المحتلة، بما فيها قطاع غزة والضفة الغربية، وكان يتحدث بشغف، وسط تململ البعض ومغادرة البعض الآخر قاعة الجلسة، عن إيجابيات التطبيع والخطط المستقبلية، والتبادلات الاستثمارية والتجارية والشراكات الإقليمية، ومنها خط سكة الحديد الذي يعبر المملكة العربية السعودية، وكان يرسمه بيده على الخارطة.
وإذا كان نتانياهو من أعلى منبر دولي لم يُثِر حميَّة الجامعة العربية الراقدة الراكدة، وهي ترى خارطة الشرق الأوسط الجديد بين يديه بدون فلسطين، فهو لم يوقظ في الشعب الفلسطيني مقاومته فحسب، بل عجَّل ربما بعملية "طوفان الأقصى"، التي استغرق التحضير لها سنوات في قطاعٍ محاصر.
نعم، قبل أسبوعين فقط من "تهمة" طوفان الأقصى، كان نتانياهو بوقاحة صهيونية معهودة يحمل في الأمم المتحدة خارطة ليس فيها دولة فلسطين، التي تعترف بوجوب قيامها 140 دولة ضمن الأمم المتحدة، وتصدح بها كلامياً بيانات القمم العربية.
وانتقدت وزارة الخارجية الألمانية، يومذاك، رفع نتانياهو خارطة لا تُظهر الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقال المتحدث باسمها؛ سيبستيان فيشر، إن رفع نتنياهو خريطة لا تظهر الأراضي الفلسطينية المحتلة والأراضي التي ضمتها "إسرائيل" أمر مرفوض، وإن البعثة الألمانية الدائمة لدى الأمم المتحدة قدمت تقريراً عن خطاب نتنياهو، للتعبير عن رفضها لرفعه تلك الخارطة، وهذا الأمر لا يفيد جهود برلين لتحقيق حل الدولتين عن طريق المفاوضات.
على مرأى ومسمع من العرب، المُطبِّعين والسائرين في التطبيع، قال نتانياهو في ذلك الخطاب، إنه لا يجب إعطاء الفلسطينيين حق الاعتراض على معاهدات السلام الجديدة مع الدول العربية، مضيفاً أن جهود "إسرائيل" الماضية بالسلام فشلت، لأنها استندت إلى فكرة خاطئة، مفادها أنه ما لم نتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، فإن أي دولة عربية أخرى لن تطبع علاقاتها مع "إسرائيل"، وفعلاً، ها هي المملكة العربية السعودية التي أراد نتانياهو "تمرير" خط سكة الحديد في أراضيها بعد التطبيع، تُعلن منذ أيام عبر ولي العهد الأمير محمد بن سلمان استحالة التطبيع قبل التوصل إلى حلّ الدولتين.
ومع تغيير الخرائط بين أيدي الصهاينة عبر الزمن، من "خارطة إسرائيل من الفرات إلى النيل"، وصولاً إلى خارطة تُخرِج فلسطين من خارطة العالم، تبقى الجامعة العربية خارج كل الحسابات، ليس على المستوى السياسي ولا العسكري، بل على المستويات الإنسانية والأخلاقية البديهية، التي منعتها من تمرير حبة دواء وجرعة ماء وكسرة خبز للأطفال والعجزة في قطاع غزة المُحاصر، حتى من جهة معبر رفح حيث محور فيلادلفيا "رمز السلام" مع "إسرائيل" ضمن اتفاقية كامب دايفد، وداسته "إسرائيل" في العدوان على غزة وداست كامب دايفد، لتكون درساً لكل المُطبِّعين، ولكل مَن تُسوِّل له نفسه التطبيع مع هذا الكيان المجرم.
ومع تخفيف "إسرائيل" من قواتها في غزة، دون الاعتراف بهزيمتها الثلاثية الأبعاد: تحرير الرهائن، والقضاء على قيادة حماس، وتفكيك الحركة، إضافة الى نكساتها المتواصلة في الضفة الغربية التي تعيش غليان الانفجار، فتحت الجبهة الشمالية مع لبنان بجرائم الأجهزة اللاسلكية، التي تنصَّل منها الرئيس الإسرائيلي بعد ليلة السبت / الأحد، التي رأى فيها نجوم الظهر من "فادي 1" و"فادي 2"، لكنه لم يستطع التنصُّل من جريمة استهداف مبنى سكني لقتل قادة من فرقة الرضوان مع عشرات المدنيين، مما دفع بحزب الله على لسان نائب الأمين العام إعلان بدء مرحلة "معركة الحساب المفتوح".
"معركة الحساب المفتوح" التي أرسل حزب الله دفعة منها على الحساب ليل السبت/ الأحد الى جنوب حيفا جاءت قاسية على العدو، وأعلنت "إسرائيل" الحرب الشاملة على لبنان من دون إعلان، وجاء يوم الإثنين محموماً على كل لبنان بألف ومئة غارة جوية، وبشكلٍ خاص على مدن وبلدات وقرى الجنوب والبقاع، وقال المتحدث باسم الحكومة الصهيونية إن حدود "إسرائيل" باتت شمال نهر الليطاني، وعلى حزب الله الانسحاب من الجنوب إلى ما خلف الليطاني.
ووسط القصف الجوي الصهيوني وصليات صواريخ حزب الله التي بلغت مديات غير مسبوقة، بدا الوضع في لبنان لغاية مساء الإثنين متماسكاً على المستوى السياسي، احتراماً ربما لأوضاع النازحين من الجنوب، تحت وطأة ارتقاء مئات الشهداء المدنيين وأضعاف أضعافهم من الجرحى، وفي هذه الأجواء توتَّر الجو الإعلامي خاصة على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، ونعترف أن الضغط الكلامي قد ازداد على قيادة المقاومة بوجوب إحراق تل ابيب، وبات كل صاحب صفحة على مواقع التواصل خبيراً عسكرياً واستراتيجياً، واختلط المنطق الإيجابي الداعم للمقاومة مع المنطق السلبي المُندد بموضوع جبهة الإسناد.
لسنا بصدد النقد رغبة في النقد، لكن لدى قيادة المقاومة ما يكفيها من مسؤوليات لا تحملها دول مجتمعة، ومهما قصفت "إسرائيل" الأجبن من أن تدخل مع لبنان بمواجهة برية، فإننا لا نرى الأمور سوى بالواقعية التي نستوحيها من رؤية قيادة المقاومة، مدينة مقابل مدينة، ومدني مقابل مدني، ووحدها هذه المعادلة تُسقط هالة هذا الكيان الصهيوني، متى جعلت صواريخ المقاومة غالبية سكان المستوطنات الصهيونية فارغة كما مستوطنات الشمال، أو إسكان المستوطنين في الملاجئ، وشلّ الحركة اليومية في كيان هذا العدو بقدر إمكانيات المقاومة التي باتت مُطالبة بالانعتاق من قيود ما تسمى قواعد الاشتباك.
هول تهجير سكان المستوطنات الشمالية، المرتبط بوقف العدوان على غزة، جعل من شمال فلسطين المحتلة حزاماً أمنياً لبنانياً، واقتطاعاً من مساحة "إسرائيل الكبرى"، ما يشكِّل كابوساً داخلياً لنتانياهو يفوق ملف الرهائن في غزة، ويحلل له ارتكاب كل الكبائر عبر عملية عدوانية أسماها "سهام الشمال" لكن أن يتحوَّل هذا الكابوس إلى هلوسة لإبعاد حزب الله إلى ما وراء الليطاني وإعادة مستوطني الشمال، فإن الأيام القادمة، والضربات القادمة، كفيلة بإيقاظ نتانياهو من الكوابيس وشفائه من الهلوسة وإعادته إلى واقع وقائع الأرض.