أقلام الثبات
لم يتمّ لغاية الآن جزم نوعية الهجوم الصهيوني يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين على لبنان عبر الأجهزة اللاسلكية، وعما إذا كان يدخل ضمن العمل المتعارف عليه بالحرب "السيبرانية"، أم ضمن إطار التردد اللاسلكي والشحنة الإلكترو مغناطيسية، وكلا التصنيفين لا يُلغيان التوصيف الذي أجمعت عليه بعض الدول والمنظمات الإنسانية، أنه عمل إجرامي غير مسبوق، كونه لا يُميِّز بين حَمَلة الأجهزة، سواء كانوا من المقاتلين أم من المدنيين، بالنظر الى انتشار هذه الأجهزة ضمن الكثير من القطاعات المدنية؛ من مستشفيات ومؤسسات خدمات وورش بناء وأسواق وما شابه، ولو أن التوقيت جاء بعد أشهر قليلة من تحذير المقاومة للبيئة الحاضنة بتحاشي استخدام الهواتف الخليوية، كونها قد تكشف للعدو بعض أهدافه، وبالتالي افترض هذا العدو أن المقاومين قد استغنوا عن استخدام هواتفهم الخلوية واستبدلوها بأجهزة Pagers أو سواها، ولذلك ذكر سماحة السيد حسن نصرالله خلال كلمته مساء الخميس رقم 4000 جهاز مفترضة من العدو أنها بعهدة مقاتلي المقاومة، وأن الهدف الإجرامي بقتل نحو 5000 شخص لبناني، افترض هذا العدو تحقيقه بدقيقتين، دقيقة يوم الثلاثاء، وأخرى يوم الأربعاء.
لا أحد منا يُكابر على أن الكيان الصهيوني بفضل الدعم الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص، قد قطع شوطاً بعيداً في التطور التكنولوجي، خصوصاً تقنية المعلومات والحروب الإلكترونية، لكن إذا كان حلم "إسرائيل الكبرى" وحفظ أمنها وديمومتها هو الهدف اليهودي الذي يستند زمن التوراة والتلمود، فإن هذا الهدف يلزمه ثلاثة آلاف عام أخرى لتحقيقه عبر كيان غاصب عمره 75 سنة، حتى ولو كانت الوسيلة قنبلة ذرية وليس شريحة إلكترونية، لذلك على "إسرائيل" أن ترتدع عن المكابرة؛ أن الآخرين اليوم ليسوا من حملة السيوف على صهوة الخيول، وزمن الحمام الزاجل قد انتهى، والمراسلات باتت بالصواريخ الباليستية التي أنزل واحد منها، قادم من اليمن، ربع سكان إسرائيل الى الملاجئ.
غريب عجيب هذا التناقض داخل المجتمع "الإسرائيلي"، الذي لا يعود فقط إلى خليط ديمغرافي من 120 دولة، ويتحدثون 80 لغة، بل للقراءة المختلفة للكتب التي تُديرهم كما يراها الحاخامات، التي تذهب ببعضهم إلى حلم "أرض الميعاد" البديلة عن المملكتين المنقرضتين "داود وسليمان" و"حشمونائيم"، وتذهب ببعضهم الآخر إلى اعتبار "إسرائيل" لعنة مخالفة لإرادة الله ويرفضون الاعتراف بها كدولة، وهم شريحة "الحريديم" الرافضين للخدمة العسكرية ولكل القوانين المدنية، وهذا يعني أن الاشتباك الداخلي في العقلية "الإسرائيلية" عمره على الأقل من عمر البدعة الصهيونية قبل قرن من الزمان، وأباحت قيام دولة يهودية في فلسطين، ترفضها شريحة من اليهود، وتتنبأ بزوالها شرائح يهودية أخرى قبل بلوغ "مملكة إسرائيل" العقد الثامن أسوة بالمملكتين السابقتين "داود وسليمان" و"حشمونايم" اللتين انهارتا قبل بلوغ العقد الثامن.
وكي لا نعود كثيراً بالتاريخ إلى الوراء، فإن المقارنة الحديثة التي أجراها السيد نصرالله في كلمته ليل الخميس، عاد بها فقط إلى العام 1978، حينما أقامت "إسرائيل" حزاماً أمنياً داخل الأراضي اللبنانية الذي كان يُسمى "الشريط الحدودي" وتمت توسعته عام 1992، وهنا تحلو المقارنة مع السيد نصرالله بين قدرات المقاومة اللبنانية في العام 1978، وقدراتها في العام 2000 عند سحقها الاحتلال ودحرها للعدوان عام 2006، وما بين العامين 2006 و2024، يُترك للعدو تقدير تطور قدرات هذه المقاومة، التي استبدلت الحزام الأمني داخل الأراضي اللبنانية بحزام أمني داخل فلسطين المحتلة، وربما هي على استعداد لدخول الجليل عند أول طلقة لحربٍ مُعلنة، ولا حاجة لتذكير العدو بمعمودية دباباته في وادي الحجير.
ومع التنويه بالمواقف اللبنانية المشرِّفة في مواجهة العدوان الإلكتروني الصهيوني، حيث تجلَّت الوحدة على المستويات الحكومية والسياسية والحزبية والشعبية، فإن هذا الخطر الصهيوني الذي تمادى من العام 1948 وبلغ لبنان عام 1978 واستمر في التوسعة والاحتلال حتى العام 1992، فإن وجوده قد سبق تأسيس حزب الله، دون الحاجة للعودة إلى وهن الدولة اللبنانية آنذاك وغيابها عن حماية الجنوب، لكن لا أحد من حقه تعيير الحزب بتعزيز قدراته الإقليمية لأن العبث الصهيوني بمصير لبنان والجوار قد بات إقليمياً.
ومع اعتبار وسائل إعلام إسرائيلية أن (السيد) نصر الله لديه هالة، وأن نصف مليار في الشرق الأوسط يرونه المحلل الأفضل لشؤون "إسرائيل" التي يفهمها أكثر من الجميع، فإن هذا الانطباع القديم الجديد يعكس استمرارية تشكيك "الإسرائيليين" بحكومتهم وساستهم وجيشهم، خصوصاً أن الأهداف الثلاثة التي وضعها نتانياهو في عدوانه على غزة لم يحقق واحداً منها، والهدف الرابع الذي أعلنه لإعادة المستوطنين إلى المستوطنات الشمالية مع لبنان لن يكون أقل خيبة من أهدافه في غزة، ولسنا نفشي سراً لو أعلنا ثقتنا وإيماننا، أنه كما هو ممنوع عودة المستوطنين إلى شمال الكيان المحتل قبل وقف العدوان على غزة وفق ما أفاد السيد نصرالله، فإن أية حربٍ مع لبنان قد تدفع بحزب الله والمقاومة إلى دخول الجليل وجعل مستوطناته شريطاً حدودياً للبنان داخل الكيان، ونحن على إيمانٍ وثقة بما نُعلن.