أقلام الثبات
أعداد المتظاهرين من العسكريين المتقاعدين محدودة، منذ إقامة تلك الخيمة الخاصة بهم في ساحة الشهداء كجزء من حركة "17 تشرين" عام 2019، مروراً بمحاولة عميد متقاعد من بينهم "احتلال" مبنى وزارة الخارجية عام 2020، وصولاً إلى تحركات الأيام الماضية في محاولة منهم لمنع عقد جلسة لحكومة تصريف الأعمال.
ومع إقرار الجميع بحقوقهم لجهة هزالة رواتبهم وتعويضاتهم، لكن تصرفات بعضهم منذ مشاركتهم في "الثورة" وحتى تاريخه، أظهرت هشاشة في المناقبية وعدوانية ضد الدولة لم يمارسها المتقاعدون المدنيون، سواء كانوا موظفي قطاع عام أو معلمين، رغم أن رواتب كل القطاعات في لبنان قد باتت "صفرية"، وليست الأزمة فقط واقعة على هذه الشريحة من العسكريين المتقاعدين، الذين ما زال وضعهم أفضل من سواهم، مقارنة مع العسكريين الذين ما زالوا في الخدمة الفعلية، أو المدنيين في كافة مستويات القطاع العام.
وقد سبق أن تخرَّج من المدارس العسكرية في لبنان، الكبار من القادة والضباط، وسلكوا مسلكية "أبناء الدولة"، منهم مَن تقاعد عن العمل كلياً واكتفى بتعويضاته وراتبه التقاعدي، ومنهم مَن انخرط في العمل بالقطاع الخاص، وبرز الكثيرون منهم في وظائف مرموقة، وباتوا رؤساء مجالس إدارة ومدراء عامين ومستشارين إداريين لشركات كبرى، وكذلك الحال بالنسبة للرتب التي هي أدنى من الضباط، وباتوا جميعاً مرغوبين في سوق عمل القطاع الخاص لأكثر من سبب، ولعل أهم ميزات العسكري المتقاعد أنه خلوق وانضباطي ومُنظَّم، وهذه الصفات لمسها في العسكريين المتقاعدين كل مَن عمِل في أسواق التوظيف في لبنان.
لأجل هذا، نأبى اعتبار بعض العسكريين المتقاعدين غير المُنضبطين، من رتبة عميد حتى رتبة جندي، أنهم يمثِّلون ثقافة المدرسة العسكرية في لبنان، لا بل أن غالبيتهم أقرب إلى "الفَشَلة"، وبعضهم نضَحَ في الشارع وعبر وسائل الإعلام، بما يحويه إناؤه العقلي من التربية الخاطئة التي لا تعرفها المدارس العسكرية في لبنان.
وقد سبق أن تحوَّل ضابط قيادي كبير إلى زعيم زاروب مذهبي، وضباط آخرين إلى العمل الميليشيوي، ومنهم مَن انخرط حتى النخاع بثقافة الشوارع ومنها غدا وزيراً أو نائباً، ومع ذلك، لم تتمكن الميليشيات - والحمد لله - النيل من أفكار الذين تقاعدوا من البزة العسكرية ولم يتقاعدوا من الضمائر الواعية، ولو أن البعض ضمن المتقاعدين، يحاول أن يبني حيثية لنفسه على أكتافهم وعلى أوجاعهم ويعتبر نفسه "تشي غيفارا" المسحوقين، وهو ليس أكثر من متسلِّق، يُمكن شراؤه بمقعد نيابي، سعى إليه وحصد الخيبة، أو عميد متقاعد برتبة نائب راسب يبحث عن أمجاد أضاعها بنفسه نتيجة ضياعه السياسي، أو لواء حاقد برتبة نائب وهو "نائبة" على تاريخ المؤسسة العسكرية بعدما انحدر من رتبة قائد إلى رتبة زعيم زاروب ميليشيوي.
خيرة الضباط المتقاعدين لم ينزلوا الشارع، لأن مدرستهم ترفض لغة الشوارع، ولا مواجهة زملاء لهم في الخدمة الفعلية رغم أن المعاناة المعيشية تجمعهم ببعضهم وبمعظم شرائح الشعب اللبناني، وهؤلاء هم المرجعية الصالحة للمتقاعدين الصادقين مع أنفسهم ومع الآخرين، وهم معروفون في المجتمع النخبوي بكفاءاتهم وخبراتهم، وهم على الأقل خارج التربية الشوارعية التي مزَّقت الدولة وما بقي من وطن.
نحن مع حقوق المتقاعدين، سواء كانوا عسكريين أو مدنيين، لكن ليس على حساب الأمن الوطني العام، ممَّن كانوا يوماً مؤتمنين على الأمن، وكفى مزايدة من العسكري على المدني في لبنان تحت عنوان "حملت دمي على كفي" يقولها عنصر أمني متقاعد، أمضى خدمته نائماً في المخفر أو راكباً دراجته للتشبيح على الناس.
إننا إذ نفهم بعض التحركات الاحتجاجية على الأرض، سواء كانت من سائقي السيارات العمومية، أو أصحاب الشاحنات والصهاريج، رغم قطعهم للطرقات والتعرُّض لمَن يرفض المشاركة ولكن، تحركات العسكريين المتقاعدين مع ما يرافقها من فوضى إشعال الإطارات والاعتداء على الأملاك العامة وإيذاء الممتلكات الخاصة، لا تختلف من حيث الشكل عن تصرفات المدسوسين، وهذا الانحدار مؤسف للغاية، من يدٍ كانت تحمل بندقية لحماية الوطن، الى يدٍ ترجُم الوطن بالحجارة.