أقلام الثبات
بصرف النظر عن مسار المفاوضات لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى بين حركة حماس و"إسرائيل" في قطاع غزة، فإن الخلاف حول محور فيلادلفيا ليس مرتبطاً فقط بانتشار الجيش المحتل لهذا المحور على حدود فلسطين المحتلة مع مصر، أو تخفيف عديده ضمن ثمانية ابراج مراقبة على امتداد 14 كيلومتراً. ورمزية محور فيلادلفيا تعني المساس المباشر بالسيادة المصرية، وهذا الأمر يرتبط بمدى حرص مصر على سيادتها، لكن رمزية هذا المحور تعني أيضاً، الخيبة "الإسرائيلية" من رفض أبناء غزة الانتقال من أرضهم إلى سيناء، لأن خروجهم الى سيناء يعني عدم عودتهم، وقدَّموا لغاية الآن أربعين ألفاً من الشهداء، مع دمار ثمانين بالمئة من القطاع، كي لا تنتهي القضية الفلسطينية بمجرد قبولهم بالتوطين المؤقت في صحراء سيناء، لأن المؤقت هو دائم في تاريخ الصراعات.
ما فشلت "إسرائيل" في تحقيقه من تهجير لمليوني فلسطيني من غزة الى سيناء، شكَّل صدمة لها ولأميركا وبعض الدول الغربية، التي راهنت في بداية العدوان، أن ضرب البيئة المدنية الحاضنة للمقاومة وتدمير البيوت على رؤوس ساكنيها، قد يدفع العائلات على الأقل للنزوح عبر المنفذ البري الأوحد لأبناء القطاع نحو سيناء، لكن النتيجة أتت عكسية، وباتت بيوت النازحين من غزة الى غزة ومن الشمال الى الجنوب وبالعكس، تلك الخيم البلاستيكية التي تنزح مع النازحين الرافضين مغادرة غزة.
وغزة لا مستوطنات "إسرائيلية" فيها منذ إنسحاب جيش العدو من القطاع عام 2005، وبالتالي لا صدامات مباشرة حصلت بين المواطنين العرب والمستوطنين اليهود، من تاريخ بداية العدوان في الثامن من أكتوبر الماضي، لكن الوضع في الضفة الغربية مختلف، نتيجة تداخل المدن والبلدات الفلسطينية مع المستوطنات الصهيونية، التي نشطت بعد توقيع إتفاقية أوسلو عام 1993، وقسَّمت أماكن السيطرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الصهيونية إلى ثلاث مناطق، كانت لكل منها خصوصيتها، إلى أن حصلت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.
- المنطقة ( أ ): تُشكل 20% من مساحة الضفة الغربية، وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية بالكامل.
- المنطقة ( ب ): تُشكل أيضاً 20% من مساحة الضفة الغربية، وتخضع للسيطرة المشتركة بين السلطة الفلسطينية والحكومة الصهيوني، مع تنسيق أمني بين الطرفين.
- المنطقة ( ج ): تُشكل 60% من مساحة الضفة، وتخضع بالكامل للحكومة الصهيونية، وفي هذه المنطقة بالذات نشطت المستوطنات بشكل مُطَّرد لإلغاء حلم الفلسطينيين بدولة مستقلة تجمع الضفة الغربية بقطاع غزة مستقبلاً.
وما حصل بعد 7 أكتوبر، أن "إسرائيل"، سواء عبر جيشها، أو عبر المستوطنين المدججين بالأسلحة، بدعم من هذا الجيش ومن المتطرفين في حكومة نتانياهو اليمينية العنصرية، خلطت أوراق أوسلو، وباتت كل مناطق الضفة الغربية بما فيها المنطقة ( أ ) مباحة للعدوان، وبدأ التضييق على البلدات الفلسطينية بهدف التهجير، وفعلاً، غادر سكان أكثر من 35 بلدة فلسطينية بيوتهم وأرزاقهم في رحلة تهجير جديدة.
ومنذ شهر فبراير / شباط الماضي، حذرت أميركا "إسرائيل" من مخاطر ممارسات المستوطنين الصهاينة بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، وفرضت عقوبات على بعض قادة التحركات الشوارعية للمستوطنين، المتهمين بارتكاب أعمال عنف في الضفة الغربية، وتطبيق العقوبات على أصولهم المالية ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، ورغم ذلك، استمر عدوان المستوطنين على الفلسطينيين قتلاً وتهجيراً وتدميراً للمنازل وانتهاكاً للأرزاق، وذلك إن انتقاماً للهزيمة في قطاع غزة، خاصة أن عقوبات أميركا طالت فقط أربعة من قادة التحركات الصهيونية، فيما يعيش في الضفة الغربية أكثر من 700 ألف مستوطن يهودي، مقابل نحو ثلاثة ملايين ونصف من الفلسطينيين.
وإذ بلغت ممارسات المستوطنين بحق المدنيين الفلسطينيين في الضفة الغربية حدوداً أثارت المخاوف في الداخل "الإسرائيلي"، فإن قلق الشاباك بات من القومي اليهودي على المستوطن "الإسرائيلي" العادي نفسه، خاصة بعد إطلاق وزير المالية العنصري بتسئيل سيموترتش مشاريع تمويل بناء مكثف للمستوطنات في كل أنحاء الضفة الغربية، وقيام العنصري الآخر وزير الأمن القومي الصهيوني إيتمار بن غفير بتوزيع الأسلحة على المستوطنين لحماية أنفسهم، وباتوا يقومون مقام الجيش والقوى الأمنية الأخرى بجرائم ضد الفلسطينيين.
وأمام تفاقم الأوضاع في الضفة الغربية، أعلن رئيس "الشاباك" رونين بار في رسالة الى نتانياهو منذ ساعات، أن عدم ضبط المستوطنين في الضفة سوف يؤدي إلى اهتزاز أمن الكيان "الإسرائيلي" بالكامل، وحذَّر "بار" رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، من اتساع ظاهرة الإرهاب اليهودي على خلفية "القومية اليهودية" في الضفة الغربية، من طرف مَن تُطلق عليهم تسمية "فتيان التلال" الذين يمارسون كافة الإعتداءات والإستفزازات بحق الفلسطينيين.
ووفقا لما أوردته القناة 12 "الإسرائيلية"، فقد أوضح رئيس الشاباك لنتانياهو وغالانت، أن "الجرائم على خلفية قومية" من قبل اليهود تتزايد، وأن قادة "الحراك اليهودي القومي"، يسعون إلى إفقاد الجهات المختصة السيطرة على المشهد في الضفة الغربية، وأن الضرر الذي تسببه تلك الجرائم لدولة "إسرائيل" لا يمكن وصفه، وأشار إلى أن "ظاهرة الإرهاب اليهودي تتسع بسبب عدم الخشية من العقاب، وحصول المنفِّذين على دعم من مسؤولين في الحكومة وأعضاء في الكنيست"، مؤكداً أن الظاهرة تضر بالجيش "الإسرائيلي" وبعمله.
كما حذر رئيس الشاباك من أن دخول وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير - الذي يتزعم حزب القوة اليهودية اليميني المتطرف - إلى المسجد الأقصى، قد يؤدي إلى سفك كثير من الدماء، وتغيير وجه دولة "إسرائيل" حسب تعبيره، وقالت إذاعة الجيش "الإسرائيلي" وصحيفة يديعوت أحرونوت، أن بن غفير انسحب غاضباً من اجتماع للمجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية، مطالباً بإقالة رئيس الشاباك، خاصة بعد تأييد وزير الدفاع يوآف غالنت لمخاوف الشاباك، وحصول تلاسن بين غالنت وبن غفير.
واستكمل الوزيران غالنت وبن غفير تبادل الإتهامات عبر منصة (X)، حيث أيَّد غالنت كل ما ورد في رسالة رئيس الشاباك، بأن جرائم المستوطنين في الضفة الغربية أساءت لسمعة إسرائيل في الخارج، وأجاب بن غفير على المنصة نفسها، أن غالنت كوزير دفاع، يتحمل مسؤولية ما حصل في 7 أكتوبر، وأضاف بن غفير في تغريدته إلى غالنت بالقول: أنا طلبت منكم إعادة لبنان إلى العصر الحجري، وأنتم أعدتم شمال "إسرائيل" إلى العصر الحجري.
وأمام تكرار الجيش "الإسرائيلي" بياناته بأنه أنهى كافة مهامه في قطاع غزة، ما زالت حكومة نتانياهو تبحث عن نصر وهمي قبل أن تُعلن خطوة "اليوم التالي"، وما "اليوم التالي" الذي ينتظر نتانياهو، سوى حرب استنزاف لجيشه بين قطاع غزة والضفة الغربية، وإذا كان القطاع خالٍ من المستوطنات والمواجهة المباشرة بين الفلسطينيين والمستوطنين، فإن أكثر من مئة مستوطنة منتشرة بين المدن والبلدات العربية في الضفة الغربية، شاءها العدوان أن تدفع الثمن سواء بقنابل الفلسطينيين أو بسكاكينهم، وعلى نتانياهو ومعه أميركا وبعض دول الغرب، ابتكار حل لمليوني فلسطيني يرفضون مغادرة غزة، وثلاثة ملايين ونصف هم أبناء الضفة الغربية، حيث لا سيناء ستكون الوطن البديل لأبناء القطاع، ولا الأردن وطناً بديلاً لأبناء الضفة الغربية، والكرة في ملعب الكيان الصهيوني رغم عجزه عن حراسة المرمى.