أقلام الثبات
كان الرئيس نبيه بري يتمنى تأجيل المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين زيارته الى بيروت لما بعد جلسة مفاوضات الدوحة، بشأن وقف إطلاق النار أو إطلاق الرهائن - ولو اختلفت التسمية - لا فرق بين المقاومة الفلسطينية والعدو "الإسرائيلي"، وفعلاً ظهرت في هذه المفاوضات بعض الإيجابيات، التي قد تكون ربما أجَّلت الردّ الإيراني، سيما أن رئيس الوزراء - وزير الخارجية القطري قد اتصل بنظيره الإيراني فور انتهاء الجلسة الأولى من هذه المفاوضات، مع تحديد الجلسة الثانية يوم الخميس المقبل.
ولأن إيران هي الغائب - الحاضر دائماً في هذه المفاوضات، شأنها شأن حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، فإن حزب الله حاضرٌ فيها حكماً من منطلق وحدة الساحات، ولذلك تبدو زيارة هوكستين إلى بيروت وتل أبيب وكأنها تعالج جزئية من هذا الصراع، ترتبط حصراً بدور الساحة اللبنانية في عملية إسناد غزة، لأن هوكستين لا يلعب أي دور على مستوى الجبهتين اليمنية والعراقية.
ولا نبالغ القول لو اعتبرنا وحدة الساحات الإقليمية من طهران إلى بيروت قد تكون أسهل على أميركا في التفاوض من الغوص في "الساحات اللبنانية" الممزقة، ليس على خلفية الصراع مع العدو الصهيوني، ولا على مسألة إسناد غزة، بل على كل شأن وطني لبناني، بدءاً من تحديد استراتيجية المصير، وصولاً إلى تعيين وزيرٍ أو خفير.
والتصريحات التي أدلت بها بعض قيادات "المعارضة" في لبنان، قبل زيارة هوكستين، وبعد لقاء بعض هذه القيادات به، تكشف أن لبنان يعيش ما يشبه الكارثة على المستويين الوطني والسياسي، بحيث بلغ التشرذم حدوداً غير مسبوقة، تدفع بأي مبعوثٍ إلى الهروب من صخب التناقضات على هكذا ساحة، تستوجب دائماً حَكَماً دولياً ومساعدين إقليميين لتفريق اللبنانيين عند كل اشتباك سياسي، ليس من الآن، بل منذ قيام دولة لبنان مروراً بكل الوصايات ووصولاً إلى معادلة "السين -السين".
وربما لا يكفي الشعب اللبناني مآسٍ يعيشها على المستويات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، مع غياب أي بصيص أمل في انتخاب رئيس ولو بمستوى "ناطور مزرعة"، جاء تصريح الرئيس نجيب ميقاتي بعد استقباله وزير خارجية فرنسا ستيفان سيجورنيه، الذي مرّ مرور الكرام على لبنان في طريقه إلى "إسرائيل"، وكأن ميقاتي يرثي لبنان حين قال بعد مغادرة الضيف وإلحاح الصحفيين عليه:
"في هذه الفترة الصعبة التي نمر بها، لا يمكن إلا ان نتحلى بالصمت والصبر والصلاة"! وهذا ليس منطق رئيس حكومة مسؤول يخاطب الرأي العام، بقدر ما أنه شبيه بمنطق مواطنٍ عجوز يعيش في الريف البعيد ولا يملك سوى الدعاء.
ومن منطق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي المُتهالِك، الى منطق "قوة لبنان في ضعفه" المُعلن في مداخلة للنائب سامي الجميل مع تلفزيون BBC، حين اعتبر أن من حق "إسرائيل" حماية حدودها الشمالية، وهو بذلك رسَّم على "حسابه الخاص" للكيان المحتل حدوده، واعترف له بها، ولا حاجة بعد تصريح الجميل لا لهوكستين ولا لسواه، والسلام على مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقرى السبع، والسلام على مقولة: 10452 كلم مربع التي ورثها سامي الجميل عن عمه بشير، ويبدو أنه غير مؤتمَن حتى على المقولة!
ورغم الجو الإيجابي الذي ساد لقاء هوكستين بالرئيس نبيه بري في عين التينة، وقوله: ما زلنا نعتقد أنه يمكن التوصل لحل دبلوماسي، لأننا لا نزال نظن أنه لا يوجد أحد يريد حقاً حرباً شاملة، والمساعي ناشطة لوقف إطلاق النار في غزة، بما للأمر من أهمية بالغة في منع توسع دائرة الصراع في منطقة الشرق الأوسط، واتفقنا على أنه لم يعد هناك وقت نضيعه"، لكن هذا لا يعني أن تفاؤل هوكستين على مستوى الساحة الإقليمية يعني أن الساحة اللبنانية الداخلية بخير، وهي "مشتعلة" على الدوام بغزة وبدون غزة، وهوكستين من خلال لقاءاته بمختلف الأطراف اللبنانيين لا تعنيه صراعات الساحة الداخلية لأنه يبحث أولاً وأخيراً عن وسائل حماية أمن "إسرائيل".
مشكلة "التقاتل" اللبناني أنه لا حلَّ لها، لا مع هوكستين ولا مع أي مبعوثٍ دولي أو إقليمي آخر، لأنها مسألة كيديات داخلية لا نهاية لها ضد المقاومة، حين يرى النائب سامي الجميل أنه: "لا يحق لميليشيا مسلّحة لديها أجندة خاصة أن تأخذ قراراً منفرداً وتجرّ باقي اللبنانيين الى حرب لا يريدونها، ولا يحق لكتلة نيابية من 13 نائبًا من أصل 128 أي 10 في المئة أن تقرر إدخال لبنان بأجمعه في حرب مدمرة قتلت مئات اللبنانيين ودمّرت قرى في الجنوب بالإضافة الى الخسائر الاقتصادية، والجيش اللبناني هو المخوّل الدفاع عن لبنان، ولا يحق لميليشيا مسلّحة لديها أجندة خاصة أن تأخذ قرارًا منفردًا وتجر باقي اللبنانيين الى حرب لا يريدونها.. واللبنانيون بحاجة لأخذ فرصة من الصراعات والدماء والموت ونعيش يومين متل الخلق”.
ومع اعتراف النائب سامي الجميل بتشتت المعارضة في لبنان، بدا موقف وفد المعارضة بعد لقائه هوكستين، مقبولاً بعض الشيء، في تصريح النائب جورج عدوان الذي قال: "باسم المعارضة، ولنضع الأمور بنصابها بشكل كامل، فإن العداء لإسرائيل هو موقف كل اللبنانيين ونحن ضد كل ما يحصل في غزة ومع حل الدولتين، لكن بقدر ما نحن مع هذه المواقف الواضحة، نحن ضد إدخال لبنان بحرب لا مصلحة له فيها، لأن مصلحة لبنان هي قبل كل شيء..."، مع تأكيد عدوان على ضرورة تطبيق القرار 1701، وحصر مسألة الحرب والسلم بالدولة اللبنانية، معتبراً أن دخول حزب الله في الحرب مع "إسرائيل" غير قانوني وغير دستوري.
وبقدر أهمية جبهة المقاومة في لبنان ضمن محور إسناد غزة، بقدر ما يبدو الموقف السياسي اللبناني المُعارض غير ذات قيمة، في المواقف التي يتخذها "المعارضون المشرذمون" أمام أي موفد أجنبي، لأن أي موفد يُدرك، أن وضع لبنان في زمن الحرب مرتبط بثلاثية الجيش والشعب والمقاومة دون سواها، ومفاوضات غزة سلكت ما يشبه تبريداً جزئياً للجبهات، بانتظار المزيد من الإيجابيات التي أفصحت عنها وفود قطر ومصر وأميركا، من خلال تشكيل لجان فنية تنفيذية لدراسة تطبيق "إقتراح بايدن"، الذي سبق ووافقت عليه حركة حماس، ويبدو أن الرئيس بايدن يحتاج إنجازه قبل الانتخابات الأميركية في 4 نوفمبر المقبل دعماً لنائبته كمالا هاريس، لا بل بات هذا الإنجاز الناخب الأول في صندوق انتخاب هاريس، التي باتت تتقدم ولو بنقاط بسيطة على "صديق نتانياهو" دونالد ترامب.
وفيما تميل الساحات الإقليمية إلى نوعٍ من الهدوء النسبي، تحتاج الساحة اللبنانية إلى المزيد من الموفدين لتهدئة الخواطر المشتبكة والمتشابكة على الدوام، سواء بِغزَّة أو بدونها.