أقلام الثبات
لا نرى من داعٍ لاستعراض تاريخ الأحزاب السياسية التي ارتبطت بشخص المؤسس في لبنان، ولم تكن ناجحة غالبية المحاولات في "الانتقال من زمن المؤسس إلى زمن المؤسسة"، كما قال المرحوم جورج سعادة عندما انتُخِب رئيساً لحزب الكتائب اللبنانية، إذ تبيَّن لاحقاً أن حزب "الله والوطن والعائلة" لن يستمر خارج حضن العائلة، لأسباب تعود للقاعدة الحزبية المتنية التي لا ترغب ربما بأشخاص من خارج بيت الجميل، والأمثلة كثيرة حول ارتباط القواعد الحزبية بشخص المؤسس، ويصيبها الضمور عند تقاعده أو رحيله ما لم يكن "متقمصاً" بوريثٍ من البيت الواحد أو من الأقارب.
ما ينطبق على الكتائب في التوريث، هو نفسه الذي حصل لحزب الوطنيين الأحرار، الذي انشطر بين المرحوم داني وشقيقه دوري، وانتهى ضعيفاً بين أيدي كميل شمعون الحفيد، فيما تلاشى حزب الكتلة الوطنية رغم محاولات إنعاشه بعد رحيل العميد ريمون إده، ونشهد حالياً توريثاً لزعامة عائلية من سليمان فرنجية إلى نجله طوني تحت راية المردة، ومن وليد جنبلاط الى نجله تيمور تحت الراية الإشتراكية، وتيار المستقبل لا مستقبل له سوى مع "الوريث الأول" سعد الحريري.
كل هذا التوريث لا يراه منتقدو الرئيس ميشال عون في توريث المُستحق جبران باسيل بالتزكية الانتخابية النظامية، ومهما كانت هناك من تيارات داخل التيار فهي نتاج ديمقراطية حزب عناصره القيادية وكوادره أحرار، لكن ما من أحد ينكر أن أقوى القوى داخل التيار هم الذين يعلنون عن أنفسهم أنهم عونيون - باسيليون، لأن جبران باسيل لا يتخذ قراراً يخالف رأي ورؤية ميشال عون.
ومع الأسف، إذا كان هامش الحرية غير متوافر لدى الأحزاب الأخرى لأسباب نفعية يقطفها نواب هذه الأحزاب - دون الحاجة لسرد مصادر المنفعة - لا يستطيع جبران باسيل تأمينها، ولا يقبل نواب التيار أصلاً أن يكونوا من أهل المنفعة، وكل الخلافات التي تحصل هي سياسية، وربما أخطأ النائب باسيل في تقدير مواقف بعض النواب وحصل الذي حصل.
وقبل أن يُلام شخص مثل نائب رئيس المجلس الياس بو صعب، والنائب آلان عون على انتخابهما سليمان فرنجية وليس جهاد أزعور كما طلبت قيادة التيار، فهل يُعقَل أن يُلزم النائب العوني بالتصويت لشخص ينتمي للحريرية السياسية، وحبر كتاب "الإبراء المستحيل" لم يجفّ بعد، وما زال القلم بيد النائب العوني الاستثنائي بنشاطه ابراهيم كنعان الذي أمضى نهاراتٍ وليالٍ في التدقيق والتمحيص والجهد حتى توصل الى نتيجة أن إبراءهم مستحيل؟!
"جريمة" الياس بو صعب أنه اختار فرنجية، ربما بحكم موقع بوصعب إلى جانب الرئيس نبيه بري، ولكن ما هي جريمة آلان عون ابن بيئة بعبدا ووثيقة "مار مخايل"؟ وهل أن مَن انتخبوه جميعهم من التيار أم من شيعة حزب الله الذين من واجبه الوقوف عند رأيهم، وحتى لو كانت العلاقة بين التيار وحزب الله فاترة حالياً، واستدعت زيارة من نواب الحزب للرئيس عون منذ أيام، فإن جرَّة "مار مخايل" لم ولن تنكسر.
وكي لا ندخل مبكراً في حيثيات استقالة النائب سيمون أبي رميا، فالرجل بيئته الجبيلية مختلطة، طائفياً وسياسياً، وقد تكون له ظروفه التي ألزمته بالاستقالة، وقاعدته الناخبة ليست إطلاقاً محصورة بالتيار الوطني الحر، ومطالبة المتحمسين من التيار، النواب الثلاثة بالاستقالة ليست منطقية ولا قانونية، ومَن يرغب بمحاسبتهم فليترصَّد لهم على أبواب صناديق الاقتراع عام 2026، وكفى انفعالات على مواقع التواصل الاجتماعي ضد نواب شرفاء أوادم، خروجهم من التيار لا يعني أنهم لم يعودوا من مدرسة ميشال عون، خاصة النائبين عون وأبي رميا اللذين ربطا حياتهما بالجنرال وكانا إلى جانبه من زمن منفاه الفرنسي.
ونعود ونؤكد أن الخلافات داخل التيار ليست على صفقات ولا على شبهات فساد والحمد لله، لكن يجب أن نعترف بوجود خلافات، وأن التياريين ما زالوا يحتاجون حضور المؤسس الرئيس العماد ميشال عون حتى في مناسبات تعتبر مُرهقة لرجل ثمانيني، وبقدر الحاجة إليه في رئاسة "هيئة الحكماء"، بقدر ما بات يتوجب إراحته من جولات ولقاءات وحفلات لا نعتقد أنها مطلوبة منه، لو كان الوضع في التيار مستقراً على المستوى القيادي الداخلي.
وإذا كان العونيون ولاؤهم لشخص الرئيس عون ومن بعده للنائب جبران باسيل، فإنهم توجهوا نحو الشخصنة منذ عدة سنوات، عندما ارتضوا النائب جبران باسيل لرئاسة التيار الوطني الحر، وهو كان سيفوز بهذه الرئاسة حتى ولو حصلت انتخابات داخلية، لكنهم بالغوا في الشخصنة عندما رفعوا راية العميد شامل روكز لقيادة الجيش وجعلوا منه "مونتغمري لبنان"، ليس بالضرورة عبر مواقع الإعلام الرسمي للتيار الوطني الحر، بل على صفحات مواقع التواصل الإجتماعي، التي هي عادة ملونة بين البرتقالي والزيتي المُرقَّط.
وهذا الولاء العوني للجيش، جعل من روكز نائباً عن كسروان عام 2018، وانتهت مسيرته السياسية القصيرة في انتخابات 2022، بعد اتهامه بالتمرُّد على "العديل" جبران باسيل، ولا يستطيع أصحاب الضمائر الإنكار، أن كل عهد الرئيس ميشال عون أمضاه "التياريون" بتزكية النائب باسيل لوراثة عمه في رئاسة الجمهورية، فاحترق عهد العمّ واحترقت الجمهورية، ولا يتحمَّل العونيون والتياريون وحدهم هذه المسؤولية، لأنهم واجهوا منظومة جمعت الأصدقاء والخصوم في تحالف أكثر من رباعي لإفشال عهد ميشال عون وقطع الطريق على جبران باسيل.
وعلى العونيين، والتياريين تحديداً، أن يدركوا، أنه ثمَّة خطأ متمادي يحصل منذ ثماني سنوات، عندما شاء البعض من الحلفاء والخصوم إطلاق صفة "رئيس الظل" في بعبدا على النائب باسيل، رغم أن الرجل بطبيعته "شغِّيل" وعصامي ولا يهدأ ولا ينام، وهذا ربما قدر هذا النوع من الشخصيات التي لا ترضى على نفسها سوى أن تكون
فاعلة مُنتجة، لكن المؤسف، أن انتقاده جاء من "غير الفاعلين" من خصومه، سواء الذين يرون الأمور عبر الناضور، أو الذين يعتكفون في الجبال كما النُساك، مع فارق بسيط، أن الناسك يسكن مغارة، وسواه بنى قصراً وحصناً يعتبره أتباعه صرح عبادة ترشح جدرانه زيتاً!
حرام هذا الظلم الواقع على قيادة التيار، كما هو حرام على من غادروا التيار مؤخراً، خاصة أن هيئة الحكماء برئاسة الرئيس عون هي التي تفصل العناصر، وهي التي تدفع بعضهم إلى الإستقالة، وفي كلتا الحالتين، التعاطي الأخلاقي هو سمَة العونيين، فلماذا ندفع بشخصيات مثل الياس بو صعب وألان عون وسيمون أبي رميا إلى الدخول مع القيادة بمساجلات إعلامية، كما يحصل مع مَن قلبه أسود وضميره أسود، وجعل من نفسه مادة هزلية على الشاشات، يجعل الأبيض أسوداً وبالعكس، فلا هو يكسب ولا التيار خسر بخسارته في الانتخابات التي دفعت به إلى نشر غسيل وسِخ، وهو يعرف أن راية التيار نظيفة ولا تحتاج للغسل.