أقلام الثبات
لسنا بصدد المدح ولا القدح في قراءة آخر زيارة للسيد بهاء الدين الحريري الى لبنان، ولا بيننا معرفة عن قُرب، ولا كيس طحين ولا كرتونة إعاشة، ومن حقه كلبناني ناجح على مستوى الأعمال أن يخوض غمار السياسة، خصوصاً أنه يُفاخر بنجاحه وتحويل شركاته من صغيرة تحوي ثلاثمئة موظف، إلى كبيرة تضمّ ستة عشر ألفاً، وباعتقاده أن القادر على التفوُّق في مجال الاستثمار لديه القدرة على التحليق في مجال السياسة، وهذا رأيه الذي نحترم، رغم أنه بات معروفاً عنه أنه صاحب الإطلالات الموسمية؛ يأتي ويرحل كما الطيور المهاجرة، التي ينتظرها هواة الصيد العشوائي لاختبار قدراتهم على التصويب والتسديد رغم معرفتهم أنها لا تؤكل.
ما كنا بصدد مقاربة موضوع قدوم السيد بهاء الحريري إلى لبنان لو لم يكن قد أتى في الموسم الخطأ، حيث سماء لبنان "شعلانة" بالنار على خلفية العدوان على غزة، وهو ببرودة المُرتاح على وضعه جاء لدراسة "الأرض"!
وإنه إذ استثنى شرائح الفئتين الأولى والثانية من السياسيين اللبنانيين من برنامج زيارته الأخيرة، شاء لقاء الفئتين الثالثة والرابعة من الوجوه الاجتماعية والمنظمات الأهلية والنشطاء السياسيين غير المُنتمين لأحد، وسمِع في جولاته على المناطق ذات الغالبية السنية ما كان يسمعه المرحوم والده، وما كان يسمعه شقيقه سعد من مطالب إنمائية ومعيشية، ودوَّنها في دفتره، واعداً بطرح مشروع استعادة الدولة دون الإعلان عن مشروعه لغاية تاريخه.
إنه الموسم الثالث الذي يحضر فيه "الطائر المهاجر" الى لبنان في التوقيت الخطأ، وقد سبق له أن تهيأ لوراثة شقيقه الرئيس سعد الحريري عندما "استُقيل" الأخير من رئاسة الحكومة خلال وجوده في الرياض عام 2017، وواجه بهاء يومذاك رفضاً سُنياً قاطعاً ولبنانياً شبه شامل، ثم حضر خلال الانتخابات النيابية عام 2022، مستفيداً من مقاطعة أخيه ومعه تيار المستقبل لهذه الانتخابات، وحاول تشكيل لوائح، ثم غادر فجأة وأقفل هاتفه بعد أن أنزل البعض في البئر و"قطع الحبل فيهم".
ومع قدومه الأخير في الموسم الثالث هذا، امتلك جرأة الإعلان بأنه الوريث الوحيد للحريرية السياسية، وقَدَحَ وذمَّ بأداء شقيقه سعد في تصريحاته، وقال إن شقيقه قد "فرَّط" بإرث الوالد، وهو قادم لاسترداده واستكمال المسيرة، لكن يبدو أن وجوده لم يلقَ ترحيباً داخلياً، خصوصاً من القيادات السنية، لا بل أن هذا الوجود ربما استفز قيادات إقليمية، خاصة في المملكة العربية السعودية، التي لديها أولويات تتجاوز حجم الزعامات اللبنانية كلها، وسارعت الى دعوة المُفتِين لزيارتها، لحسابات سنيَّة كبيرة تتخطى بهاء الحريري أو سواه، وتتناول التنسيق العام للخطاب السني المواكِب للعدوان على غزة، في محاولة لفصل "المسارين": السنِّي الداعم للمقاومة الفلسطينية في غزة، والسنِّي الداعم للمقاومة في لبنان ضمن إطار إسناد غزة.
وقد سرَّبت بعض وسائل الإعلام أن الغاية من دعوة المُفتين (بالجمع) الى السعودية، هي نتاج استياء المملكة من الوضع السنِّي اللبناني المُواكِب لنصرة غزة، ليس بالضرورة نتيجة انضمام بعض الشباب السني الى جبهة الإسناد لغزة بقيادة حزب الله، بل لحماسة الخطاب التي ابداها عدد من مفتي المناطق في مساندة الحزب من على منابرهم، مما دفع بأحد كبار الكُتَّاب السُنَّة المقربين من المملكة، الى الاستهجان عبر مقالٍ له وقال: "روّعني ثوران المشايخ المفروض أنّهم أكثر حرصاً على أرواح الناس وأكثر وعياً بالخلفيّات". وتابع الكاتب في مقاله: "هذا مفتي يخطب حاملاً رشّاشاً، والآخر يشتم العرب ويفضّل عليهم الإيرانيين، وثالث يعتبر الحزب قدس الأقداس...".
في هذه الأجواء، حطّ السيد بهاء الحريري رحاله في لبنان، وبمقدار حاجات الناس المعيشية والإنمائية التي دوَّنها في دفتره خلال لقاءاته، هناك قلق لبناني كبير مما يحصل في فلسطين المحتلة، وهناك ترقُّب لبناني واسع لما يحصل على الجبهة الجنوبية المشتعلة، وهناك خلط أوراق على الطاولة الإقليمية ولبنان في وسطها، ولا وقت لأحد من كل الطبقات والشرائح الحزبية والسياسية أن يُشارك بهاء الحريري لعبته مع أخيه على طريقة "كشّ ملك".
نحن مع السيد بهاء الحريري في تجاوز المنظومة السياسية الفاسدة في لبنان، التي نشأت مع انطلاق "الحريرية السياسية"، وقد تكون للرجل نواياه الحسنة في طرح برنامج استعادة الدولة، ولكن كيف له أن يكون حمامة سلام وسماء لبنان متَّشحة بالغمام؟ وكيف بإمكانه اختراق منظومة كاملة متكاملة تقبض على كل مفاصل الدولة منذ زمن والده ومروراً بزمن شقيقه وهو لم يعلن بعد عن مشروعه السياسي، ولم يُبدِ رأياً بما يحصل على المستوى الوطني في الجنوب، ولم يطرح رؤية مستقبلية كشريك بديل عن تيار المستقبل، وهو لغاية الآن لم يحمل من رسالة السلام مع الآخرين في الوطن سوى الهديل عن بُعد، وهديله لا يحمي وطناً ولا يبني دولة؟!