أقلام الثبات
بصرف النظر عن ارتفاع شعبية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في السباق الرئاسي للعودة إلى البيت الأبيض، خصوصاً بعد الإصابة التي تعرض لها خلال الحفل الانتخابي بولاية بنسلفانيا، فإن قوته تكمن في نقاط ضعف خصمه الرئيس جو بايدن، الذي ينقسم الحزب الديمقراطي حالياً حول جدوى ترشيحه.
وفي الوقت الذي عقد الحزب الجمهوري مؤتمره يوم الإثنين الماضي "لتتويج" ترامب مرشحاً له، يبحث الحزب الديمقراطي عن الآلية التي تسمح باختيار بديل عن بايدن في حال بقيت الانقسامات حاصلة حتى موعد المؤتمر العام للحزب في شهر أغسطس المقبل.
ولأن اسم دونالد ترامب قد اقترن بالكيان الصهيوني أكثر من اللازم، من خلال نقله السفارة الأميركية إلى القدس عام 2017، واعترافه بالسيادة "الإسرائيلية" على مرتفعات الجولان السورية المحتلة عام 2019، ورفعت "إسرائيل" اسمه على مستوطنة جديدة هناك أسمتها "Trump Heights"، فإن ترامب في حال عودته إلى البيت الأبيض، لن يجِد في القدس آذاناً تُرفع ترحاباً، ولا أجراساً تُقرع تحبباً، وقد لا يعثر على يافطة تحمل اسمه في الجولان، التي ما عادت ولن تعود كما كانت قبل "طوفان الأقصى".
الجولان السورية المحتلة، التي رُفعت عليها زوراً عام 2019 يافطة "مستوطنة مرتفعات ترامب"، كانت قبل عملية "طوفان الأقصى" كما الشمال الفلسطيني المحتل على الحدود مع لبنان، من أجمل وأفضل الأماكن السياحية في فلسطين، لأن الوسط مزدحم بالحياة المدنية والجنوب شبه صحراوي، وفي الجولان كان السائح يجلس في مقاهٍ ومطاعم على ارتفاع 1160م من مستوى سطح البحر، مع إطلالة على سوريا ولبنان وفلسطين، والمنطقة كانت وجهة مفضلة لآلاف السيّاح، وسط طبيعة نادرة في جمالها.
كل هذا انتهى مع نهاية آذار/ مارس الماضي، وأقفلت العديد من المقاهي والمطاعم وأماكن الترفيه أبوابها، لأن حركة السياحة لامست الصفر بعد 7 أكتوبر، وأعلن المدير التنفيذي للسياحة في كيبوتس "مروم هغولان" بالجولان المحتل، أن "إسرائيل" صنَّفت المنطقة على أنها "عسكرية مغلقة"، بعد أن أصبحت هدفاً لصواريخ المقاومة القادمة من لبنان.
وإذا كانت مرتفعات الجولان السورية المحتلة قد "أفلست" سياحياً عام 2024، قياساً إلى نشاط العامين 2022 و2023، بعد نهوضٍ من كبوة الكوفيد العالمية، فإن المستوطنات الشمالية على الحدود مع لبنان، هي من المناطق الناشطة سكانياً وسياحياً وزراعياً مع تجمعات للصناعات المتوسطة والخفيفة، ونزوح المستوطنين منها وفق وسائل الإعلام الصهيونية، بعضه نهائي بنسبة 13% استقروا في مناطق أخرى أو هاجروا، و40% لا يفكرون بالعودة، ولم يبقَ في بعض مستوطنات الشمال سوى مزارع دجاج يديرها عمال آسيويون، وتجمعات لجنود العدو في الأحياء المدنية المهجورة.
وإذا كانت عائدات السياحة في "إسرائيل" لا تتجاوز 3.5%، فإن العائدات غير المباشرة التي تنعكس على قطاعات أخرى كالمصارف والاتصالات والنقل ترفع هذه النسبة إلى 7%، والسياحة شبيهة جداً بقطاع الإستثمارات، وتنطبق عليها نظرية "الرأسمال الجبان" الذي يهرول عند أول طلقة، ولا يعود قبل ضمان انتهاء آخر طلقة، وبذلك، فإن "إسرائيل" قد تخسر ما يضاهي خمسة مليارات دولار خلال العام 2024 في قطاع السياحة، قياساً لأرقام العام 2023 من شهر يناير حتى شهر سبتمبر من العام نفسه قبل اندلاع "طوفان الأقصى".
وكأية "دولة" في حالة حرب، نصحت الحكومات في جميع أنحاء العالم مواطنيها بعدم السفر إلى "إسرائيل"، ولم تعد حُزم تأمين السفر التقليدية تشمل تغطية للأشخاص الذين يسافرون إليها، وافادت صحيفة معاريف، أن 45 شركة طيران فقط تعمل الآن في "إسرائيل" من أصل 250 شركة كانت تعمل قبل الحرب، في حين تدير شركة العال "الإسرائيلية" أكثر من 70% من الرحلات الجوية المحدودة المتبقية، والتي انطلق معظمها لاستقدام جنود الاحتياط المدعوين للخدمة العسكرية وإعادتهم من حيث أتوا، بعدما بلغ العجز المالي العام حدود 7.7%.
ولأن الحركة السياحية تعكس الجو العام في أي بلد، ذكر مكتب الإحصاء المركزي "الإسرائيلي"، أن حوالي 180 ألف سائح زاروا "إسرائيل" في الربع الرابع من عام 2023، مقابل 930 ألف سائح في الربع الرابع من عام 2022، أي بانخفاض نسبته 81.5%. ويقول بيني ليفي؛ نائب رئيس المبيعات والتسويق في سلسلة الفنادق "الإسرائيلية": كان عام 2023 هو العام الذي تعافينا فيه من كوفيد، وكان من المفترض أن يكون العام الأكثر نجاحًا في تاريخ إسرائيل.. لقد قُضي على السياحة في 7 أكتوبر".
وإذا كانت السياحة هي معيار الجو العام في أي بلد سياحي، فإن حركة الهجرة هي المعيار الأوحد لمستقبله، خاصة متى كان المواطن من درجة مستوطن تم استيراده من هنا وهناك، وهذا هو واقع كل المجتمع "الإسرائيلي"، حتى الذي ما زال بعيداً عن مخاطر الحرب، وتصنيف الفئات العمرية للمهاجرين دون عودة من "الإسرائيليين" هي التي تثير القلق في الاوساط الدينية والسياسية، لأنها تُظهر بوضوح أن النسبة العالية هي من فئة الشباب الذين لا يعتبرون "إسرائيل" المكان الآمن لبناء مستقبل.
هذه نبذة بسيطة عن "إسرائيل" التي تحمل إحدى مستوطناتها المحتلة اسم "مرتفعات ترامب"، حاول خصمه الرئيس بايدن كل ما بوسعه لتزويدها على مدى عشرة أشهر باشرس أنواع الأسلحة والذخائر لقتل وتهجير عشرات آلاف المدنيين وتدمير بيوتهم على رؤوسهم في غزة، ومع كل البوارج والأساطيل والجسور الجوية المفتوحة، فشلت "أميركا بايدن" بإنقاذ "مستوطنة مرتفعات ترامب"، وملف غزة والجوار المقاوِم، غدا الطوق النهائي على عنق كيانٍ عدوانيٍّ مارق لا قيامة له بعد نهوض مقاومٍ مؤمنٍ مارد، وسيستغرق ترامب مطولاً في تأمل هذا الملف الساخن قبل أن يمد يده إليه للاطلاع على بداية نهاية الكيان "الإسرائيلي" الذي تركه قبل أربع سنوات ولم يعُد ولن يعود كما كان.