أقلام الثبات
خلال تجواله على المناطق اللبنانية، يحرص السيد بهاء الدين الحريري على استقبال الموفدين الذين حددهم فريق عمله بالأسماء، وهم في الغالب من الناشطين في مناطقهم، ويُبدي اهتمامه بالاستماع الى مطالبهم، ويستخدم الدفتر والقلم لتدوين هذه المطالب، لكننا نخشى أن يحصل بمطالب هؤلاء المواطنين ما كان يحصل مع المدعو "واصف".
"واصف" كان يعمل لدى نائب ووزير سابق وزعيم في إحدى المناطق، وكان يستقبل الوفود في الدار العامرة، وكلما جلس وفد مع صاحب الدار، يقف "واصف" الى جانب معلِّمه في الزاوية حاملاً الدفتر والقلم، ويسجِّل مطالب الناس التي يُمليها عليه معلِّمه: "سجِّل يا واصف، ذكّرني بكرا بهالموضوع يا واصف، اهتم إنت شخصياً بهالقصة يا واصف" ...الى آخره.
بعد رحيل الوفود جميعها، يبدأ واصف بقراءة الطلبات لمعلِّمه، وغالبيتها يكون الجواب عليها واحد من إثنين: ارميها بالزبالة يا واصف، أو خزِّقها وحلّ عن خلقتي يا واصف!
و"واصف" رغم شهرته، ليس الوحيد الذي كان يُجيد الكتابة والتمزيق ورمي هموم الناس في "سلة الزبالة"، لأن أحد النواب السابقين أيضاً كان يكتب المطالب على "علبة الدخان" وعندما تفرغ العلبة يرميها مع مطالب الناس في "الزبالة"، وتتبخر أحلام الزاحفين والمشلوحين على أدراج "الباب العالي" كما دخان السجائر.
وكي لا نظلم واصف وأمثاله في التوصيف، فإن النائب الزعيم بات مرجعية بالنيابة عن دولة غائبة منذ أكثر من نصف قرن، وأي مطلب بديهي لأي مواطن، غدا في دارة النائب أو الزعيم، من أبسط خدمة التي هي "رقعة زفت"، مروراً بكل الخدمات التي يُفترض أن تؤمنها الدولة، ولا يمكن تأمينها سوى بالواسطة، وبالرشوة، وباليد الطولى ولكن، طلبات المواطن على كثرتها وخدمات الدولة على ندرتها، هي التي جعلت الزعيم مرجعية، والنائب مرجعية، وأصغر موظف مرجعية، وهذا ما أدى الى تناسخ "واصف" في "دولة واصف" منذ ثلاثة أجيال على الأقل.
وسواء دوَّن السيد بهاء الحريري مطالب الوفود على الدفتر بنفسه، أو كان لديه مطلق "واصف" للتدوين، فإن النتيجة واحدة، ليس تشكيكاً منا بنوايا الرجل، ولكن السيد بهاء الحريري ارتكب ثلاثة أخطاء، تُقارب بجسامتها الخطايا المميتة.
أولاً: حضر السيد بهاء الحريري إلى بيروت في زيارة وضع يد على الإرث، وقد تم تنظيمها لوجستياً بدقَّة، لكن مع انعدام تنظيمها سياسياً، لدرجة أنها تكاد تعتبر "مهمة مستحيلة"، خاصة بعد أن أعلن من عكار هدف زيارته كما تداولته وسائل الإعلام نقلاً عن تصريحاته العلنية.
ومما أورده أكثر من موقع إعلامي، أن السيد بهاء الحريري أعلن أمام فعاليات سياسية واجتماعية في عكار، "الموت السياسي" لشقيقه الرئيس سعد الحريري، وقال بالفم الملآن: "الضرب بالميت حرام" و "أنا الوريث السياسي لوالدي"!
وأكد بهاء أن أحداً "لا يستطيع إيقافي بعد عودتي إلى ممارسة العمل السياسي"، ليخلص إلى أن "البلد لا يتّسع لكلينا: إما أنا أو سعد"، واتَّهم شقيقه بأنه دمَّر إرث والده بين ليلة وضحاها، وهو غير قادر على الحفاظ على ما تبقّى، ولذلك "أنا اليوم هنا الوريث السياسي للحريريّة".
ثانياً: في تصريحاته، قارن بهاء الحريري بين "نكسات" شقيقه المادية، ومنها "سعودي أوجيه"، التي "لا نعرف كيف انهارت" على حد تعبيره، وبين نجاحاته في إدارة شركاته، وتمكُّنه من رفع عدد موظفيه من 300 إلى 16 ألف موظف، معتبراً أن النجاح الاقتصادي مقدمة للنجاح السياسي.
هنا يتبين لنا فعلاً أن الولد سرّ أبيه، وأن مالك المال قد يمتلك بعض المناصرين ولكن الحريري الأب فُرِش له السجاد الأحمر سياسياً وشعبياُ، والحريري الشقيق كذلك، احتراماً لشهادة والده، لكن الحريري بهاء سيجد نفسه مضطراً كي يكسب من شعبية شقيقه أن "يفرش" و"يفلش" للناس، دون أن يعطيه أحد ضمانة أو كفالة بأن أنصار سعد أو البعض منهم، على جهوزية لأن يكونوا له.
ثالثاً: بهاء الحريري يعتقد أنه جاء في التوقيت الصحيح، حيث الطائفة السنية الكريمة تنتظر شقيقه سعد، غير القادر لعدة أسباب على العودة حالياً، لكن هل يستطيع بهاء على لعبة " غاب القط إلعب يا فار"؟ نحن لا نعتقد، لأن أوراق اعتماد السيد بهاء الحريري وطنياً غير كاملة، لا بل منقوصة، سيما وأن المزاج السني حالياً على جبهات غزة والجنوب اللبناني، والوقت غير متاح لتحويل أنظار المقاومة وحلفائها إلى الداخل بهدف إجراء محادثات سياسية، خاصة أن السيد بهاء الحريري لا يحمل تأشيرة إقليمية للعمل السياسي في لبنان، وبانتظار التأشيرة، عليه تحسين مواقفه في تقديم أوراق الاعتماد للنظر بإمكانية قبولها وطنياً..