أقلام الثبات
يصرَ بعض اللبنانيين على الإستمرار في رهانات ثبت خسرانها وفشلها، في حين تتسارع الأحداث العالمية والإقليمية، منبئة بتغييرات طالما جرى توقع حدوثها وعملت قوى وبلداناً كثيرة على مراكمة ظروقها، ليخرج العالم من دائرة هيمنة وتوحش وظلم لا يقل قساوة عن ظلم وتوحش القرون الغابرة، عندما كان الإنسان بدائياً يقتل ليأكل، فاذا هو اليوم، ليس فرداً بل انظمة ودولاً، تقتل لتحكم وتتسلط وتنهب خيرات وثروات غيرها من دول وشعوب العالم.
وفيما يتحطم غرور القوة "الإسرائيلية"، التي كانت تتباهى بأنها تغلبت على جيوش دول عربية إدعت غيرتها على مصير فلسطين، فهزمت تلك الجيوش وتخطت حدود التقسيم الأممي لفلسطين عام 1948، كما شاركت إنكلترا وفرنسا في غزو مصر واحتلال سيناء، عام 1956، ثم هزمت جيوش مصر وسورية والأردن بستة أيام عام 1967؛ واحتلت أراض شاسعة من تلك الدول؛ وطردت منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها من لبنان عام 1982، في حين ان ثلة من المقاومين طردت الإحتلال "الإسرائيلي" من لبنان، في أول تحرير لأرض عربية من هذا العدو الغازي، من دون قيد أو شرط، عام 2000. وصمدت تلك الثلة في وجهه وكسرت عدوانه عام 2006؛ وها هي مسيرة الإنتصارات تتقدم في فلسطين وغزة وتصمد وتقدم التضحيات الغالية طوال عشرة اشهر من المواجهات؛ وتلقن العدو هزائم يومية في الميدان، تجبره على كشف جبنه وحقارته في الإنتقام من المدنيين وارتكاب المجازر بحقهم.
هذا التغيير ليس مقتصراً على الصراع في فلسطين، بل هو تظهير لصمود وإنتصارات يحققها محور المقاومة في كامل المنطقة، بعد أن كشفت مؤامرة ما سمي "الربيع العربي" الذي قاد "ثوراته" الصهيوني اليهودي الفرنسي برنار هنري ليفي؛ وكانت قمة هزيمة تلك المؤامرة، فشلها في السيطرة على سورية وتقسيمها والحاق أجزائها بمحور المطبعين مع العدو "الإسرائيلي". وكان ذلك بالطبع لو نجح لأدى إلى حصار المقاومة في لبنان والتخلص منها.
وهذا الفشل الأميركي والغربي والصهيوني في منطقتنا، تكامل مع قيام روسيا بصد هجمة حلف "الناتو" على أبوابها، إبتداء من جورجيا ووصولا إلى اوكرانيا، التي تختصر الصراع على احادية حكم العالم أو تعدد أقطابه. وهذا ما يتررد صداه في أميركا اللاتينية، التي يزداد عدد دولها الخارجة عن طاعة "السيد الأميركي".
وهذا التغيير، ليس تباهياً من الدول الرافضة والمتصدية للهيمنة الأميركية والغربية، بل هو إعتراف من أحد الذي ظن حكام بلده في يوم مضى، أن العصر الأميركي لا نهاية له، فتركوا روسيا تتعثر في حطام الإتحاد السوفياتي وذكريات "حلف وارسو"؛ وانضموا إلى حلف "الناتو" المعادي.
الرئيس الفنلندي، ألكسندر ستوب، في صحوة على الواقع، كتب في مجلّة "ذي إيكونوميست" البريطانية، أن العالم يتغير وأن عصر الهيمنة الغربية إنتهى، مشبهاً ما نشهده اليوم، بما حدث في أعوام 1918 و1945 و1989، مؤكداً: "أننا نعيش واحدة من تلك اللحظات التي يموت فيها عصر ويولد عصر جديد".
وأقر ستوب بأنه "كان من بين كثيرين اعتقدوا أن نهاية الحرب الباردة سوف تعني نهاية التاريخ، لكن هذا لم يحدث. فقد انتهى عصر الهيمنة الغربية، كما اعتدنا أن نعرفه". ورأى "أن على الغرب أن يختار بين أن يستمر في الإيمان بوهم مفاده أنه قادر على البقاء مهيمناً، كما فعل طوال قرون من الزمان، أو أن يقبل حقائق التغيير، ويبدأ التصرف وفقاً لذلك".
لكن هل يقرأ تلاميذ وصبيان السفارة الأميركية في لبنان مثل هذه الكتابات، أم يبقون في رهاناتهم المتحجرة، التي ما تزال تراهن على عدوان "إسرائيلي" يغير واقع لبنان، حيناً؛ أو تراهن على تدخل أميركي وغربي يفرض واقعاً مختلفاً، حيناً آخر، حتى بلغت الخسة والحقارة بالبعض بان دعا الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، عند زيارته للبنان، لأن يعيد إنتداب بلاده علينا.
ولو كان امثال هؤلاء يقرأون ويتعظون، لما خرج مؤخراً من لا يخجل من التصريح برفض قتال هذا العدو، حتى لا يسجل عليه أنه سكت عن ذلك القتال؛ وهو الذي سبق أن تدرب وتسلح وقاتل في صفوف المحتل "الإسرائيلي". وصعد مع دبابته ليجتاح مناطق لبنانية خلال العدوان "الإسرائيلي" على لبنان عام 1982.
يقول ذلك "الجهبز" أن "فتح جبهة الجنوب لم يكن مجرد خطأ، بل خطيئة كبرى بحق الشعب اللبناني وبحق القضية الفلسطينية أيضا". فهل هناك عاقل يشهد على الظلم اللاحق بالشعب الفلسطيني ويرفض قتال الفلسطينيين للمعتدي "الإسرائيلي"؟ وهل هناك من هو أعمى، أكثر ممن لم ير الإعتداءات "الإسرائيلية" على لبنان عموماً، منذ العام 1948 وحتى اليوم، ليرفض إنضمام الشرفاء والمقاومين اللبنانيين لجبهة قتال هذا العدو. وهل هناك جاهل يتغاضى عن حقيقة أن بداية عصر الهزائم لدى العدو الصهيوني، بدأ عندما التقطت الجمهورية الإسلامية في إيران راية فلسطين، التي القتها أرضاً أنظمة الخيانة والخضوع والتطبيع، فبدأ عصر الإنتصارات. وهكذا يكشف ذلك "السيادي" المدعي عن خطابه المتصهين، عندما يقول أن "الهدف من فتح هذه الجبهة تثبيت محور إيران أكثر من أي شيء آخر"، متجاهلا أن هذه الجبهة هي للدفاع عن أرض لبنانية وقضية عربية وليس عن أرض إيرانية.
بل لا يخفي ذلك المتصهين، التزامه الدفاع عن المطامع "الإسرائيلية" بقوله : "لماذا لا تطبق الحكومة القرار الأممي 1701 من طرف واحد؟ وأين هي المشكلة إن انتشر الجيش اللبناني في الجنوب مكان انتشار الحزب؟ وبالتالي، نكون بذلك ضمنا أرضنا وحدودنا؟". فهو كما كل اللبنانيين، يعلم أن العدو "الإسرائيلي" رفض ويرفض تطبيق ذلك القرار من جهته. وأن الجيش اللبناني لا يملك السلاح الذي يتيح له التصدي لأي عدوان "إسرائيلي". بل هو ممنوع من إستعمال "خردة" السلاح القديم، الذي تزوده به الولايات المتحدة الأميركية، ضد "إسرائيل". وحادثة شجرة عديسة تكذب من يتجاهل أن هناك عالم يتغير رغم الرهانات المتحجرة.
عالم يتغير ورهانات متحجرة ــ عدنان الساحلي
الجمعة 12 تموز , 2024 01:50 توقيت بيروت
أقلام الثبات
مقالات وأخبار مرتبطة