أقلام الثبات
السمك على الطاولة الرئيسية، والطاووق على الطاولات الثانوية، في المأدبة التي أقامها السيد بهاء الدين الحريري في طرابلس لوجوه اجتماعية، أثارت جدلية "مهضومة" كما وصفتها صاحبتها، التي انتقدت "التمييز الطبقي"، خصوصاً أنها امتلكت من جرأة القول إنها أتت فقط للتعرف إلى السيد بهاء الحريري، وإنه يجب أن يكون طعامه كما طعام ضيوفه، من منطلق المساواة في رمزية الخبز والملح.
هذه المسألة في تصنيف الضيوف "خطأ بروتوكولي"، لكن طَبعُ السيد بهاء الحريري أن لديه فوقية في التعاطي، قد تكون أخفّ عند شقيقه سعد، الذي بادر أنصاره إلى رفع اليافطات في طرابلس وسواها من المناطق ذات الأغلبية السنية، لإعلان الولاء له دون سواه، وهذه اليافطات قد رُفعت بوجه شقيقه بهاء تحديداً، لوضع حدود مناطق النفوذ المقفلة بوجه كل من يحاول "خلافته". الطاووق والسمك على مأدبة واحدة، كان بقي ضمن إطاره الضيق، مزحة أو دعابة لو اقتصر على تمييز الحضور "خبزاً وملحاً"، لكنه انسحب لما بعد المأدبة، وأظهر التباين الحقيقي بين ما يحمله السيد بهاء الحريري في جعبته للنهوض بالبلد، وبين ما ينتظره الشعب اللبناني منه، خاصة الشارع السني.
في تصريحٍ أدلى به السيد بهاء الحريري من طرابلس للوكالة الوطنية، جدد تأكيده أنه قطع عهداً على نفسه بـ"مواصلة مسيرة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي صنع الكثير من الإنجازات في حياته لنهضة لبنان وازدهاره، كما أنه دفع دماءه فداء للوطن...".
واعتبر بهاء الحريري خلال استقباله شخصيات وفاعليات شمالية ووفودا شعبية من مختلف القطاعات في منتجع "ميرامار"، أن "المسار الصحيح سيكون وحده الكفيل بالوصول إلى الخلاص"، واعداً بـ"العمل لإصلاح العديد من القطاعات في البلد"،
وتوجه إلى الوفود بالقول: "أنتم أهل طرابلس أهل الوفاء، فكيف لي ألا أكون وفياً لكم"؟
والتباين بين المُضيف وضيوفه بدا واضحاً، وكأنه في واد وهُم في وادٍ آخر، بحيث ربط تحركه بأمور كبيرة، حيث توقع "أن يحصل تغيير جذري في إيران، وأن يكون لهذا التغيير انعكاس إيجابي على المنطقة ككل"، وقال: "علينا أن نكون على جهوزية تامة لهذا الأمر في حال حدوثه".
أما وفد المدعوين، فقد أكد وقوفه إلى جانبه ودعمه الكامل له بانخراطه في المعترك السياسي، واستنكر حملات التحريض التي تُشنّ ضده، وتمنى عليه إقامة مشاريع مُستدامة في منطقة الشمال لإنعاش الواقع الاقتصادي في المنطقة ككل، كذلك دعم القطاع الزراعي، ودعاه إلى إنشاء مراكز متخصصة لأصحاب الاحتياجات الخاصة ومكافحة التسرب المدرسي، وعرض له مشكلة المباني المهددة بالسقوط في طرابلس نتيجة الإهمال المستشري، لا سيما الأثرية منها، وتمنى عليه أن يكون هذا الملف ضمن خطته، خصوصاً أن أعداد المباني كبير جداً، وهذا الأمر يستدعي إيجاد فرق متخصصة لإدارة الأزمات والكوارث".
مواقف سياسية بكلام كبير عن إيران، ووعود بالإنماء بقيت ضمن العموميات، لكن السيد بهاء الحريري بالغ في الرهان على أن وصول الإصلاحي مسعود بزشكيان إلى الرئاسة في إيران سوف يُخفِّض من عزم إيران على دعم محور المقاومة في المنطقة، لأن هذه السياسة مستمرة في إيران كجزء من استراتيجيتها الإقليميّة لدورها القيادي، وهي مرتبطة بموقع المرشد الأعلى وليس برئيس الجمهورية كائناً مَن يكون، وإذا كان السيد بهاء الحريري يربط انطلاقته السياسية في الداخل اللبناني بانحسار جزئي للوزن الإيراني، فإنه للأسف سيجد نفسه جالساً على مأدبة سياسة من الماضي ليس عليها سوى الفتات وبقايا الحَسَك من الحريرية السياسية السابقة، وها هي برقية الشكر على التهنئة التي أرسلها الرئيس الإيراني الجديد لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، تؤكد الثوابت الإيرانية، وقد ورد فيها: لقد دَعَمَت جمهورية إيران الإسلامية دائماً مقاومة شعوب المنطقة ضد الكيان الصهيوني غير الشرعي، وإن دعم المقاومة متجذر في السياسات الأساسية للجمهورية الإسلامية وهذا الدعم سيستمر بقوة”.
وحتى لو سلمنا جدلاً أن بهاء قد قام بخطوة القدوم الى لبنان لخوض غمار السياسة واستقطاب جماهير أخيه سعد، بالتنسيق مع الأخير، لخلافته رضائياً بسبب وضعه الصحي، أو لاستمرار الفيتو السعودي عليه، فهل هذا يعني أن التوريث سهلٌ لهذه الدرجة، وأن الجماهير جاهزة كما القطعان للانتقال من هنا الى هناك؟
وإذا كان هذا التوريث الرضائي قائماً، فأي تفسير لموقف أمين عام تيار المستقبل من بلدة مجدل عنجر منذ أيام، في إعلان الولاء للرئيس سعد الحريري دون سواه، في تلميحٍ واضحٍ لوصول بهاء إلى لبنان وبِدء ماراثون الاجتماعات التشاورية المناطقية؟
على أية حال، مفتاح السراي في بعبدا، ومفتاح بعبدا يجول بين حارة حريك وعين التينة وميرنا الشالوحي، وهو إطلاقاً ليس في بكركي، ولن يُفرج عن مفتاح بعبدا قبل إغلاق بوابة الجنوب على ما يُرضي لبنان والمقاومة، وخلاف هذا المنطق لا نرى منطقاً للبحث في أي شأن سياسي داخلي لبناني، وإذا شاء أي من الحريري أخوان أو كليهما البحث عن موقع على الساحة، فكل الساحات مفتوحة ولكن، الجماهير "الغفورة" لم تعُد قادرة على التجارب ولا على الغفران...