أقلام الثبات
بالكاد هبطت طائرة السيد بهاء الدين الحريري في مطار بيروت، أو "مطار الوالد"، حتى سارع ابن عمته أحمد الحريري الى القيام بجولة استباقية بدأها من البقاع، ليس بصفته فقط أمين عام تيار المستقبل، بل كونه محسوباً على الشقيق الرئيس سعد الحريري، ومن مجدل عنجر، خلال افتتاح ملعب رياضي، أعلن ولاءه وقال: اليوم وكل يوم، من مجدل عنجر والبقاع ومن كل لبنان، نقول للرئيس سعد الحريري: "وين ما كنت نحنا معك، ولا يمثلنا إلا اعتدالك وعروبتك ووطنيتك وإنسانيتك، وكِبر قلبك الكبير، ومهما حصل سنبقى على صبرنا معك، في انتظار أن يحين الوقت للعودة إلى كل الساحات".. ومن هنا تبدأ الحكاية، مَن هو مع بهاء ومَن مع سعد، وهذه المعادلة التي ستنسحب على كل القوى السياسية في لبنان، قد تنسحب أيضاً على المناطق، هذه مع سعد وتلك مع بهاء.
للوهلة الأولى من ماراثون "الحريري أخوان" تمتلكنا الدهشة من وضع الطائفة السنية الكريمة؛ بعائلاتها العريقة وبعلمائها وبشيبها وشبابها، كيف يعتقد البعض أنها توقفت منذ بداية التسعينات على شخص، هي التي كانت ولَّادة على الدوام للنُخَب، حتى ولو كان هذا الشخص بمنزلة الرئيس الراحل رفيق الحريري، ربما لأن لبنان كان على حضيض العوز يومذاك، وبات أكثر عوزاً في أيام نجله سعد، وتحت حضيض العوز الآن مع وصول نجله بهاء.
واللافت في تحرك أحمد الحريري بالتزامن مع وصول بهاء، حرصه على "تيار المستقبل" كقاعدة جماهيرية مؤتمَن عليها، وإن كانت في وضعية "مكانك راوح"، نتيجة غياب الرئيس سعد الحريري عنها، وقد يُصادر بهاء شريحة منها تحت عناوين خدماتية، سيما أنه يرفع راية استكمال مسيرة والده الإنمائية، حتى لو انطلق بهاء سياسياً من الصفر، فوالده لم يكن بحاجة لا لكتلة نيابية ولا لجماهير عريضة في بداية انطلاقته، لكن يبدو أن بهاء لا يُدرك "من أين تؤكل الكتف" على مائدة "التقاسم الأخوي" مع سعد، والقسمة حتمية ليس فقط في الشارع السني، بل في التموضعات السياسية المتضادة، لأن حال الأخوين هو كما الخطين المتوازيين، اللذين لن يلتقيا يوماً، سيما أنها ليست المحاولة الأولى لبهاء في طموحه لوراثة الوهج الذي ورثه سعد من أبيه.
عندما استُقيل الرئيس سعد الحريري من الرياض عام 2017، تداول الإعلام رغبة شقيقه بهاء بالحلول مكانه في رئاسة الحكومة، لكن الضوء الأخضر السعودي لم يُعطَ له، وعندما اعتكف شقيقه سعد عن العمل السياسي ومعه تيار المستقبل عن المشاركة بالانتخابات النيابية عام 2022، حضر بهاء إلى لبنان وأنشأ محطة تلفزيونية، وحاول تشكيل لوائح، لكن خاب ظنه، خصوصاً عندما أعلنت طريق الجديدة (معقل بيت الحريري البيروتي)، أنها حصراً لشقيقه سعد، وممنوع دخولها على سواه.
أُولى المعوقات أمام السيد بهاء الدين الحريري، هي "الكاريزما" المطلوبة جماهيرياً، وهو يفتقدها، و"عبسته" التي لا تفارق حاجبيه مع لهجة شبه متعالية، هي هيبة رجل أعمال قادم للاستثمار وفتح شركات، وليست توحي بأنه قادم لإعادة تفعيل مؤسسات اجتماعية ومستوصفات كانت قائمة في زمن والده، وإذا كان يرى أن إرث والده وشقيقه سعد هو العز الذي كان في "قريطم" أو في "بيت الوسط"، فإن الزاحفين من كل مناحي مناطق العوز قد فقدوا الأمل على طرقات "الحج" إليهما في الذهاب والإياب، ولم تَعلَق في ذاكرتهم سوى حكاية "الشيخ زنكي"، ويئِسوا من الوعود، فكيف لبهاء أن يستعيدهم وهو يخاطبهم بكلمة "يا قوم" على طريقة الحجاج بن يوسف؟!
ولأنه عُرِف عن السيد بهاء الحريري تغييره الدائم لفريق عمله في لبنان، عند كل محاولة دخول الى الساحة السياسية، فمعنى ذلك أنه لا يعرف ماذا يريد، أو أنه لا يعرف "الأرض" ماذا تريد، أو أنه يُبتلى كما ابتلى الوالد بحلقة من المقربين المنتفعين التي كانت معروفة باسم جماعة الPayroll، أو الدجالين الذين أحاطوا بشقيقه سعد للرقص على الضريح وذرف دموع التماسيح، ومن بينهم العشرات من أشباه محمد زهير الصديق.
ولو سلمنا جدلاً أنه من حق بهاء الدين الحريري أخذ فرصته في العمل السياسي لوراثة المرحوم والده بديلاً عن شقيقه سعد، فإنه سيُحدِث شيئاً ما على الساحة السياسية الباحثة عن قطب سُني يملأ الفراغ، لكن كي يكون بهاء ذلك القطب، لا تكفيه الأموال لو قرر "تقليد" والده مادياً، بل عليه تقليده سياسياً، وهذه مسألة صعبة عليه، بالنظر الى مواقفه السابقة وخطابه الهجومي على المقاومة، وهي نقطة ضعف على الساحة الوطنية في هذا التوقيت بالذات، حيث قيادة المقاومة لديها على الجبهة الجنوبية ما هو أهم من بازار السياسة الداخلية.
وربما كانت الفرصة متاحة للشقيقين بهاء وسعد الحريري اقتسام إرث الزعامة، وقد سبق أن حصل ذلك بين الرئيس رفيق الحريري عن بيروت و شقيقته السيدة بهية عن صيدا، لكن الخلاف على أحادية الزعامة المركزية انطلاقاً من العاصمة بيروت يمنع التقاء المصالح، مع أرجحية مطلقة للرئيس سعد، بعد "سيطرته" مدى 15 عاماً على إرث الحريرية السياسية وبناء علاقات مع أمراء الطوائف الأخرى من جهة، ومن جهة أخرى دَفَع سعد ثمن عدم رغبته بإبداء الخصومة المُعلنة مع حزب الله والمقاومة، لا بل أنه "استُقِيل" من رئاسة الحكومة لهذا السبب، بوشاية داخلية لبنانية، وبقرار إقليمي، بينما بهاء يأتي لبناء حيثيته السُّنية على طريقة أشرف ريفي؛ عداء للمقاومة شرطٌ لاعتلاء سُلّم الزعامة، وهذه المعادلة قد تصلح على مستوى زاروب في طرابلس، ولا يمكن أن تتجاوز زاروب في بيروت، خصوصاً عندما تكون المقاومة على خطوط النار المصيرية في الجنوب، وكل ما عداها على المستوى السياسي في الوقت الحاضر هزيلٌ هزيل.