أقلام الثبات
الاجتماع الأخير في باريس الأسبوع الماضي، بين أطراف المفاوضات بشأن غزة؛ الأميركي والقطري و"الإسرائيلي"، كان لغياب مصر عنه الكثير من الدلائل والوفير من الرسائل، بتبرير مصري صريح: "عدم لمس جدية من الإسرائيليين في المفاوضات السابقة، ولا مانع لدى مصر من العودة إليها متى لمست هذه الجدية".
وجاء اتصال من الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم الجمعة الماضي، لترطيب الأجواء والتنويه بدور مصر في هذه المفاوضات "الخماسية"، التي تضمها مع حماس الى "الثلاثي الباريسي"، وأكد بايدن على العلاقات الاستراتيجية مع مصر، وما يلي ذلك من العموميات التي لم تُجدِ مع السيسي للقبول بفتح معبر رفح طالما الجيش "الإسرائيلي" يتواجد فيه، الى أن حصل التوافق على استخدام معبر كرم أبو سالم لتمرير المساعدات الى قطاع غزة دون التنسيق مع "إسرائيل"، وأن تتسلمها منظمات الأمم المتحدة العاملة في قطاع غزة، مع تأكيد مصري بعدم عودة التنسيق مع الكيان "الإسرائيلي" بشأن غزة قبل الانسحاب من معبر رفح.
ورغم التجاور بين معبريّ رفح وكرم أبو سالم، فإن المسألة تتجاوز السيادة الفلسطينية التي تُطالب بها مصر على معبر رفح، الى السيادة المصرية على جوار المعبرين وتحديداً محور فيلادلفيا، نقطة التماس التي نصَّت عليها اتفاقية كامب دايفد بين مصر و"إسرائيل"، ونقطة تركيزٍ صهيونية على أنفاقٍ مزعومة قديمة العهد تحت هذا المحور، تُستخدم للتهريب بين مصر وقطاع غزة، رغم تأكيدات مصرية متكررة أن هذه الأنفاق جرى تدميرها من الجانب المصري وتعويمها بالمياه عام 2014.
بعد ساعات من مكالمة بايدن مع السيسي حول ضرورة ابتعاد الجيش "الإسرائيلي" عن معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وفيما العين الصهيونية على أنفاق تحته يجزم أنها ما زالت تُستخدم من حماس، أطلَّت المقاومة الفلسطينية من أنفاق جباليا في الشمال، ونفذت عملية مركَّبة مُعقَّدة يوم السبت، وأوقعت ما أوقعت من قتلى وجرحى وأسرى في صفوف هذا الجيش، عبر استدراج قوة منه الى النفق والانقضاض على قوة ثانية جاءت للمساندة والإنقاذ.
وإذا كانت العين الصهيونية على أنفاق مفترضة تحت محور فيلادلفيا، الذي لا يتعدى طوله 14 كيلومتراً ما بين مصر وقطاع غزة، فماذا عن 700 كيلومتر من متاهات الأنفاق على امتداد قطاع غزة التي تدَّعي "إسرائيل" أنها دمَّرت نحو 200 كيلومتر منها، وماذا اكتشفت من أنفاق في محافظة رفح ومدينتها لغاية الآن رغم المجازر، فيما المقاومة ما زالت تطلع إليها من أنفاق جباليا، وحتى من أنفاق بيت حانون في أقصى شمال القطاع، التي اعتبرت نفسها أنها "طهَّرتها" من المسلحين في الأيام الأولى للدخول البري؟
ولعل الأهم في المحادثة الهاتفية لبايدن مع السيسي، أن الأخير أكد على استخدام معبر كرم أبو سالم "بصورة مؤقتة" لدواعٍ إنسانية تخفف من معاناة أهل غزة، لكن مصر بانتظار انسحاب "إسرائيل" من معبر رفح، وعدم انسحابها وعودة السيادة الفلسطينية عليه تعني بالدرجة الأولى عدم عودة مصر الى طاولة المفاوضات، خصوصاً أنها الوحيدة القادرة على التواصل مع القيادات الميدانية لحماس داخل القطاع، سواء كانت كتائب عز الدين القسام أو باقي الفصائل المقاتلة على أرض القطاع.
وإذ أكدت الرئاسة المصرية أن السيسي وبايدن اتفقا على إدخال كميات من المساعدات الإنسانية والوقود، لتسليمها إلى الأمم المتحدة في معبر كرم أبو سالم "بصورة مؤقتة"، إلى حين التوصل إلى آلية قانونية لإعادة تشغيل معبر رفح من الجانب الفلسطيني، لا يبدو أن هناك بديلاً عن هذا الطرح، خاصة رفض حماس تشغيل المعبر من طرف شركة أمنية أميركية، أو ما يقترحه الإتحاد الأوروبي من انتداب لجنة أوروبية أو أوروبية - عربية لإدارته، وهذا ما تعتبره حماس ومعها السلطة الفلسطينية في رام الله تعدٍِ على السيادة.
ومشكلة معبر رفح ومعه محور فيلادلفيا تتخطى أيضاً مسألة السيادتين المصرية والفلسطينية عليهما، والتدخل الشخصي للرئيس الأميركي بشأنهما سببه الحقيقي، ليس إدخال المساعدات الى القطاع لإسكات تظاهرات الشارع الأميركي وتحركات الجامعات، بل لأن التواجد العسكري الإسرائيلي في محيطهما تهديد مباشر لاتفاقية كامب دايفد، التي أنتجتها وأخرجتها اميركا، وليس من صالح الرئيس الأميركي وهو على أعتاب انتخابات رئاسية غير متكافئة مع خصمه دونالد ترامب، أن يقوِّض خلال ولايته "عميدة الاتفاقيات" التي رعتها أميركا واستجلبت من خلالها عدداً من اتفاقيات التطبيع العربي مع "إسرائيل"، ورأي بايدن في هذا الإطار أكثر صوابية من نتانياهو، لأن التوتير المجاني للعلاقات مع مصر لن يفيد، لا في تدمير حماس ولا في إنقاذ مَن بقي من الرهائن أحياء، خاصة أن الوضع على جانبي معبر رفح فيه من الهشاشة، بحيث وقع يوم الإثنين اشتباك بين الجيشين المصري و"الإسرائيلي" قُتِل بنتيجته جندي مصري وسقط بعض الجرحى.
إضافة الى ما استجد من مناوشات على معبر رفح، والتي قد تتطور الى معركة بل الى حرب مع مصر، وبمقدار المخاطر التي يواجهها نتانياهو في الخارج، حيث الشوارع الشعبية تُدين حكوماتها الشاهدة على عدوان الإبادة في غزة، وباتت تهزُّ أمن تلك البلدان من أميركا الى أوروبا خاصة من فئة الشباب الجامعيين، مع الإدانة الأممية المتمثلة بقرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية، بحق نتانياهو شخصياً وحكومته اليمينية العنصرية، فإن الوضع الداخلي في الكيان "الإسرائيلي" الداخلي ليس أفضل حالاً، شعبياً وحكومياً واقتصادياً وبنيةً عسكرية، بعد أن تحولت الحكومة الى تيارات ضغائن وتناقضات أشبه بهيكلٍ متداعٍ، ومجلس حربٍ بات الجالسون فيه في حربٍ بينيَّة وتشرذم يحمل الرعب من المخاطر الوجودية.
يقول الجنرال في الاحتياط إسحق بريك، المعروف باسم "نبي الغضب" في الشارع "الإسرائيلي"، منذ تنبؤه بعملية طوفان الأقصى قبل حصولها:
"الإنجاز الحقيقي المطلوب الذي يبرر دخول الجيش الإسرائيلي إلى قلب غزة، على افتراض أن الهدف النهائي منه هو القضاء على حكم حماس والجهاد، فإننا لو حققنا إنجازاً كبيراً في الأشهر المقبلة وقتلنا الآلاف من عناصر كتائب القسام والمقاومة في الأنفاق، فسيبقى 500 كيلومتر من الأنفاق وآلاف العيون بعرض وطول غزة، ولن نتمكن من الوصول إلى معظمها لعدة أشهر، وبالتالي سيظل عشرات الآلاف من عناصر حماس والجهاد في الأنفاق، ولن تكتمل المهمة".
وتابع بريك: "كلما طالت فترة البقاء في مدينة غزة، سيكون لدينا المزيد من الخسائر، وستزداد الضغوط العالمية بسبب المشاهد الأليمة التي تنتشر حول العالم، عن جرحى وشهداء غزة الذين تتزايد أعدادهم جراء هجماتنا براً وجواً وبحراً، والمجتمع الدولي سينظر إلينا بحقارة، وسيتغلب الضغط علينا، لأن زعماء العالم لا يصمدون أمام الضغوط الشعبية والمظاهرات القاسية ضد إسرائيل في بلدانهم".
هذه الرؤية السوداوية التي يُفصح عنها الضابط المخضرم "بريك"، منذ ما قبل عملية طوفان الأقصى وخلال العدوان، أضاف إليها رئيس هيئة المفقودين والأسرى في الجيش "الإسرائيلي" نيتسان ألون منذ ساعات، وصفاً أكثر سواداً وقال إنه "يشعر بالإحباط بسبب الوضع الحالي، ويعتقد أنه لن يكون هناك اتفاق مع هذه الحكومة برئاسة بنيامين نتنياهو.
وبحسب القناة 12 الإسرائيلية، قال ألون للضباط: أنه تحدث مع بنيامين نتنياهو، وأوضح له أنه سيكون من الممكن العودة إلى القتال في أي لحظة، بعد الموافقة على الصفقة وأن "الاتفاق الذي أدفع من أجله سيتضمن عودة جميع المختطفين، في حين أصرَّت حماس على أنه يشمل إنهاء الحرب، التي أُخرِجَت عن سياقها."
هذا هو الوضع في قطاع غزة حالياً، وهو مراوحة صهيونية في تحقيق إنجاز عسكري واحد للأهداف المعلنة: القضاء على قادة حماس ونزع سلاح المقاومة وتحرير الرهائن، وهو أيضاً مراوغة صهيونية تهدف لكسب الوقت في مفاوضات غير مجدية، بهدف إلهاء أهالي الرهائن "الإسرائيليين" الذين نجحوا في التجييش الشعبي ضد نتانياهو وحكومته وصولاً الى المطالبة باستقالته وإجراء انتخابات مبكرة، فيما نتانياهو لا يمتلك قرار وقف النار وهو أسير تركيبة وزارية ائتلافية غريبة، حيث "بن غفير" عن يمينه و"سيموترتش" عن يساره يهددانه بالانسحاب من الحكومة في حال وقف النار، و"آيزنكوت" من جهته يدعو لاحتلال قطاع غزة والبقاء فيه، فيما "غالنت" يؤكد بالأرقام العددية والمالية عدم قدرة "إسرائيل" على احتلال قطاع غزة والبقاء فيه، وتبدو هذه الحرب باقية حتى لما بعد سقوط نتانياهو، و 500 كيلومتر من الأنفاق كافية بالمقاومين فيها لإدامة لهيب النار حتى إضاءة شعلة دولة فلسطينية من قلب الأنفاق.