مقالات مختارة
تمثل العمليات التي تنفذها المقاومة في غزة وعبر حدود لبنان، وما تستعدّ له المقاومة اليمنية والمقاومة العراقية بالتوازي أضعاف ما كانت عليه العمليات في الشهر الأول من الحرب التي شنها جيش الاحتلال على غزة بعد طوفان الأقصى، سواء من حيث عدد العمليات، أو من حيث نوعيتها وحجم الخسائر التي تتسبّب بها لجيش الاحتلال. هذا في حين يفترض على الأقل بالنسبة لغزة ان يكون منسوب العمليات إلى تراجع، وفق التقديرات التي تقول بتراجع حجم قوة المقاومة ومقدراتها، لتقول هذه العمليات إن المقاومة لا تزال بألف خير وإنها لم تفقد ما يُقام له الحساب، وإنها لم تكن تستخدم كامل ما تستطيع فعله، وهي الآن تبدأ حرب الاستنزاف التي قيل إنها بدأت منذ الطوفان.
تتناسب قوة عمليات المقاومة ونوعيتها ويتناسب حجمها، مع تراجع قدرة جيش الاحتلال القتالية، سواء في تماسك هياكل وحداته المرممة، أو في روحه القتالية، أو التخبط الذي يطغى على تكتيكاته القتالية بعدما فشلت حملته الأولى في الشمال والوسط وخان يونس. وكما يظهر من معارك رفح فإن الأوهام التي زرعها قادة الكيان حول المفعول السحري لهذه المعارك في حسم الحرب تتبدّد مع ما يقوله الميدان، وبمقدار ما يبدو انتقال المقاومة الآن إلى بدء حرب الاستنزاف خياراً عسكرياً حكيماً بالتزامن مع تراجع القدرات القتالية لجيش الاحتلال، فإن أسباباً إضافية كانت حاضرة في توقيت هذا الانتقال.
تبدو المقاومة أكثر اطمئناناً إلى عجز الاحتلال عن الذهاب بفعل خسائره في حرب الاستنزاف الى خيار الحرب الكبرى، وهو ما كانت تقوم بمراعاته بطبيعة عملياتها، خصوصاً قبل الرد الإيراني الرادع، الذي أظهر الانكفاء الأميركي العسكري عن خيار الرد على الرد وإمساكه بيد الاحتلال لمنعه من فعل ذلك، لتضيع بذلك آخر فرص الذهاب الى الحرب الكبرى، فتطلق يد المقاومة في حرب الاستنزاف دون الحذر من خيار الحرب الكبرى، التي لا تريدها ولو كانت لا تخشاها. كما تبدو المقاومة، خصوصاً في غزة، وقد تحررت من مسؤولية مراعاة تضحيات شعبها العالية والمؤلمة، بينما يبادلها هذا الشعب صموداً أسطورياً وملحمياً، فكانت المقاومة تحاول بضرباتها المحسوبة أن لا تتحمل وزر أعمال التدمير والقتل والإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال، ولذلك وضعت لعملياتها هدفاً هو إثبات لا جدوى الخيار العسكري لجيش الاحتلال، سواء في وهم القضاء على المقاومة، أو في وهم تحرير الأسرى، وتختبر مدى كفاية هذا الإثبات علمياً لجلب الاحتلال إلى طاولة التفاوض للتسليم بشروطها.
حدث القتل والتدمير في ظل العمليات المدروسة للمقاومة، تحت سقف إسقاط الخيار العسكري للاحتلال سواء في القضاء على المقاومة أو في تحرير الأسرى، لكن الاحتلال لم يأت الى التفاوض وفق شروط المقاومة، بل إن المقاومة نجحت في التحرر من مسؤولية الاحتكام إلى الخيار العسكري مجدداً، عبر موافقتها على عرض تفاوضي قدمه الوسطاء وقبلت به، ورفضه الاحتلال، وهي لم تعد مدينة للوسطاء بإثبات حسن نية وإظهار سعي جدي لإنجاح التفاوض، ولو أنها لم تلق أي ثناء ولم تسمع كلمة إدانة للاحتلال تحمّله مسؤولية إضاعة الفرصة، بل إن التجربة التي أظهرت للمقاومة محدودية قدرة الوسطاء على فعل شيء دون الأميركي، ومحدودية ما يرغب الأميركي بفعله دون القبول الإسرائيلي، أظهرت أيضاً محدودية قدرة ملف الأسرى على جلب الاحتلال الى التفاوض بشروط مرضية للمقاومة، رغم أهمية الحراك الذي يشهده الشارع في الكيان وأهمية الانقسامات التي يثيرها ملف الأسرى بوجه حكومة بنيامين نتنياهو.
صارت المقاومة حرة من أعباء إثبات حسن النية، وحرة من أي مسؤولية عن الاحتكام للخيار العسكري، وحرة من القلق من احتمال التدحرج الى حرب كبرى، وإذ بالاحتلال يقرر الذهاب إلى معركة رفح، التي يرفضها الكثير من الداخل السياسي والعسكري في الكيان، والكثير من الخارج، بما فيه الأميركي ولو كلامياً، ما يجعل كل عمليات المقاومة مهما بلغت ضراوتها رداً دفاعياً مشروعاً على من يصرّ على الاحتكام للخيار العسكري، وقد روّج لأوهام القدرة على تحقيق ما لم يتحقق من أهدافه بخوض معركة رفح.
ثبت أن الاحتلال لن يأتي للتفاوض بشروط مقبولة من المقاومة نتيجة لدور الوسطاء، طالما أن الأميركي عراب الوساطة فلن يذهب بعيداً في الدفاع عن أي عرض للاتفاق إلا بمقدار ما يرضى به الاحتلال. كما ثبت أن ملف الأسرى مهما بلغت مخاطر قتلهم أعلى من احتمالات الإفراج عنهم، لن تجلب حكومة الاحتلال للتفاوض الجدي، والاحتلال مهما كانت خسائره العسكرية لم يعد يجرؤ على المخاطرة بالتفكير بالحرب الكبرى وحده، والأميركي حسم أمره خارجها، والشعب المؤيد للمقاومة رأى حرصها على التوصل لاتفاق، ورأى أنها تذهب للخيار العسكري من موقع الدفاع، فهذا يعني أنه الوقت المناسب لحرب الاستنزاف، أي جعل الاحتلال ينزف أكثر بجنوده وضباطه، ويخسر أكبر نسبة من آلياته وعتاده، وقد صار هذا هو الطريق الوحيد لإعادته الى التفاوض بشروط المقاومة.
يبدو دفتر شروط المقاومة للعمليات على جبهتي جنوب فلسطين وشمالها، حصاد مئة إصابة يومياً في صفوف الضباط والجنود بين قتيل وجريح، وتدمير وإعطاب 50 آلية كل يوم، حتى يصرخ الاحتلال طلباً للتفاوض او تلحق به هزيمة تفرض تداعيات سياسية داخل الكيان، توصل إلى التفاوض بشروط المقاومة تحت شعار الأولوية لوقف الحرب واستعادة الأسرى.
ناصر قنديل ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً