أقلام الثبات
أخذ الجدال حول هبة، أو رشوة المليار يورو، التي قررها الاتحاد الأوروبي للحكومة اللبنانية، مجالاً واسعاً من النقاش والأخذ والرد؛ وما يزال الكباش الكلامي مستمراً، خصوصاً حول مدى رخص لبنان ودولته، مقابل ما يدفعه الأوروبيون لتركيا والأردن لقاء احتوائهما للنازحين السوريين.
مشكلة اللبنانيين في هذه القضية أنهم مثلما قال وزير دفاع العدو "الإسرائيلي" موشي ديان، عن العرب، خلال عدوان حزيران 1967، عندما قيل له إنه يستخدم الخطة العسكرية ذاتها التي استخدمها في عدوان 1956، ضد البلدان العربية، فقال بما معناه "إن العرب لا يقرأون؛ وإذا قرأوا لا يفهون؛ وإذا فهموا فسرعان ما ينسون"، ونضيف إن اللبنانيين إذا لم ينسوا فإنهم يتناسون، لأن الفساد المستشري في لبنان ليس في اتجاه واحد، بل هو عامودي وأفقي، تديره وتنشره الزبائنية المترسخة بين الزعيم والقطيع الذي يتبعه.
فاللبنانيون يعلمون أن تشجيع نزوح الأخوة السوريين إلى لبنان، خلال الحرب العالمية التي شنت على سورية، في العقد الماضي ولم تتوقف مفاعيلها بعد، كان من قبل جهات لبنانية وقفت على المنابر، تدعو لذلك، وتحذر من رفض استقبالهم، معتبرة أن هؤلاء سيكونون حطب حربها ضد الدولة السورية، وتم ذلك بتمويل خارجي معلن وصريح، من قبل بعض البلدان العربية ودول غربية.
كما اعتبر بعض اللبنانيين ان العمل في تهريب دخول السوريين إلى لبنان، مهنة تدر عليه مالاً، يتلقاه من الذين يهربهم؛ وكذلك من جهات دولية عملت على تمويل دخول السوريين إلى لبنان وتقديم الأموال لهم، عبر جمعيات محسوبة على المجتمع المدني، فيما تواطأ رجال أعمال وتجار وصناعيون لاستغلال المناسبة في الحصول على أيدي عاملة رخيصة.
لكن مع انقلاب السحر على الساحر وصمود الدولة السورية؛ وافتضاح مشروع تقسيم سورية وارتباط قادة ما سمي "الثورة السورية"، بعلاقات مباشرة مع العدو الصهيوني؛ وبعلاقات تبعية مع الولايات المتحدة الأميركية؛ وبكل من يدور في فلكها في المنطقة، بدأ المشجعون أنفسهم شن حملة تحريض ضد النازحين، في ركوب لموجة التململ التي نتجت عن معاناة اللبنانيين، من الأزمة المالية والاقتصادية التي أصابتهم نتيجة الفساد السياسي والمالي، المرافق للحصار المالي الأميركي والعربي المضروب على لبنان، الذي ترجم بمصادرة المصارف لأموال المودعين وتهريبها إلى الخارج، بحماية من زعماء الطوائف واحزابها الممسكة بقرار الدولة العلني والمخفي؛ وبانهيار قيمة العملة المحلية إلى مستوى غير مسبوق.
والأمر الذي يتجنب كثيرون الخوض فيه أن ما يتلقاه لبنان من تمويل لتغطية تكاليف النزوح السوري إليه، يذهب معظمه إلى سماسرة الجمعيات التي تتولى العلاقة الوسيطة بين النازح والممول الاوروبي، أو العربي. وأن هؤلاء الذين يحصلون على الأموال تلك، يرتكبون جريمة بحق لبنان وبحق النازح السوري. فهذا النازح من حقه، لا بل من واجبه أن يقصد بلاد كل من حرضه ضد دولته، وساهم في خرابها ونهب ثرواتها. وخصوصا البلدان الغربية والخليجية، التي مولت الحرب على سورية. كما أن حشد النازحين يفوق طاقة لبنان وقدرته على الاحتمال. أما أن يتوظف البعض في لبنان حارسا للبحر يمنع النزوح السوري الى البلدان الأوروبية، فهو ارتزاق رخيص، يعبر عن مدى كذب الشعارات التي يرفعها هذا البعض عن الوطنية والسيادة والاستقلال.
ودولة "ابو رخوصة" هذه التي قبلت رشوة مليار يورو لإبقاء النازحين السوريين في لبنان، نكاية بدولتهم؛ وصداً لهم عن ركوب البحر للهجرة إلى بلاد الغرب، تكرر ما فعلته بالأخوة الفلسطينيين، عندما لجأوا إلى لبنان هرباً من مجازر الصهاينة بحقهم عام 1948. وأرشيف أحداث تلك المرحلة حافل بصيحات الترحيب بالفلسطينيين، من قبل زعماء لبنانيين مشهورين، بعضهم اعتبرها فرصة لأن بين الفلسطينيين أثرياء "يصرف أحدهم خمس ليرات يومياً"، والمعروف أن كبار المصرفيين في لبنان كانوا في تلك المرحلة فلسطينيين. والبعض الآخر من اللبنانيين وجدها فرصة للحصول على أيدي عاملة رخيصة. ومن ينظر في خارطة توزيع مخيمات اللجوء الفلسطيني يعلم كيف وزع اللاجئون بين ايدي عاملة في بساتين صور وصيدا وغيرها؛ وأيدي مماثلة جرى اسكانها قرب المناطق الصناعية في تل الزعتر والبداوي وغيره، وكل ذلك في ظل مسرحيات "الإبداع اللبناني" الذي عاش على حساب تخلف ومصائب ومشكلات الجوار العربي؛ والآن يجري الترويج لجعل هذا اللبناني "الفريد من نوعيه"، عاملاً موسمياً في فرنسا وإيطاليا وغيرهما، للتخلص من ضغط الفقر والجوع الذي يعانيه، نتيجة عبقرية وإبداع حكومة صاحب المليارات، الممثل لتحالف التجار وأصحاب المصارف وزعماء الطوائف، الذين نهبوا لبنان ويعملون علناً على تشريد شعبه.