أقلام الثبات
تصريحات بعض السياسيين في لبنان عن سلاح المقاومة، فيما السلاح ساخن وملتهب بأيدي المقاومين، والعدوان يطرق الأبواب من الجنوب، إن لم نقُل عنها خيانة متمادية عند كل استحقاقٍ وطني، فهي تكتيكٌ هزيل اعتمدته نفس الشريحة، سواء كانت عائلية أو سياسية، مع العثماني والفرنسي والفلسطيني والسوري والصهيوني، وتوارثته هذه الفئة عبر الأجيال من الأجداد الى الأحفاد، تماماً كما توارثت ألقاب الشيخ والأمير والبيك والأفندي، التي خلعها عليها الوالي العثماني، لأنها أدت دورها بجدارة في تحصيل الميرة والضرائب من الفلاحين لمقام "الباب العالي".
ما كنا بحاجة لاستحضار التاريخ، ولا الحديث عن أصول ألقاب "المشيخة" و"الباكوية" و"الإمارة" و"الأفندية"، وباقي التسميات التي خُلعت على بعض اللبنانيين من أيام العثمانيين، سوى لتفعيل الذاكرة وإنارة بصيرة المُغتابين من الأتباع، عن "العزّ" الذي كان عليه البعض من أهل الألقاب في زمن "الليرة العثملِّي"، وما زالوا عبر أبنائهم واحفادهم في هذا "العزّ" بزمن "الأخضر الأميركي"، مع ولادة فئة جديدة تصُحّ تسميتها "السفاري"، التي اعتاد أفرادها الارتحال خارجياً الى عواصم القرار، وداخلياً بين أدراج عنجر وأدراج عوكر لتسوُّل المناصب!
لا نرغب تسمية أحد، ولا نتهِّم أحداً بالارتهان للمحتل، ولا العمالة لأي غريب، ولكن، يا "سامعين الصوت" من الشعب اللبناني: بلغنا عصر الإعلام المفتوح، وتكنولوجية وسائل التواصل التي باتت مواقع إخبارية سريعة، وإذا كان ردع أي مسؤول، غير مسؤول، عن نفث السموم صعباً في بلد الحريات الفالتة على غاربها، وسط طغيان المهزلة الطائفية على قاعدة "6 و6 مكرر" أو ما يمكن تسميتها واقعياً "حاكمية لبنان"، فإن المواطن اللبناني الذي يتابع التصريحات والمواقف، ويذوب انبطاحاً بهذا الزعيم أو ذاك، بات عليه قراءة نبذة من التاريخ المعاصر لسلالة بعض الزعامات التي يلتحق بها.
نحن لا نعود بالتاريخ كثيراً الى الوراء، ولا نُعِيد القارئ معنا الى زمن فخر الدين ولا بشير الشهابي، بل الى الأحداث الماضية المرتبطة بأحداث اليوم، دون المرور حتى بالعام 1948؛ تاريخ تأسيس الكيان الصهيوني وبدء النزوح الفلسطيني الى لبنان، لأن ما يعنينا في الأمر أن أبواب لبنان المُشرَّعة، من الضروري معرفة مَن شرَّعها ولماذا، منذ تشريع "الأمن الذاتي"، وأن تكون لدينا الجرأة لمعرفة مَن الذي شرَّع، ثم ننتقل الى ظروف استقدام الجيش السوري، ومَن الذي استقدمه، مروراً بما قبل وخلال وبعد الاحتلال "الإسرائيلي"، ووصولاً الى استقبال التكفيريين ومَن يُطلقون على أنفسهم تسمية "المعارضة السورية"، وانتهاءً بما بات يحويه لبنان من مجموعات خارجية تحمل ما تحمل من أسلحة موجَّهة الى الأهداف الخطأ، فيما بعض ممتهني السياسة ومنتحلي الصفة يهاجمون سلاحاً لبنانياً مقاوماً في المواقيت الخاطئة، والخطأ مقصود، منذ حرب التحرير مع المحتل الصهيوني عام 2000، ثم خلال مواجهته وسحقه في العام 2006، وصولاً الى بناء توازن ردع ورعب معه، وحفر الأنفاق الدفاعية بالإبرة والعرق والدم منذ بدايات انطلاق المقاومة، وما تلاها من أمور تنظيمية وتعبوية حتى هذا اليوم، الذي بتنا فيه كلبنانيين خنجراً في خاصرة كيانٍ غاصبٍ وجيشٍ قالوا إنه "لا يُقهر"، قبل أن يُصهَر فولاذ دباباته بجثث جنوده من بيروت الى وادي الحُجير.
وكي نقارب الواقع اللبناني حالياً على المستوى الجماهيري، فنحن نعرف وقيادة المقاومة تعترف أن هناك انقساماً لبنانياً حول دورها في مواجهة العدوان الصهيوني على غزة والضفة الغربية والجنوب اللبناني، وهذا الانقسام، سواء كان سببه انغماس هذه المقاومة في الحرب تحت مسمى "إسناد غزة"، أو تحت عنوان استرداد الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقرى السبع، فإن مصادرة رأي الشعب اللبناني في هذا الأمر المصيري ممنوعة على بعض الأحزاب، خصوصاً تلك التي تعتبر أن "قوة لبنان في ضعفه"، أو تلك التي تعاملت وتعاونت مع العدو "الإسرائيلي" في يومٍ من الأيام، وإذا كنا نتحاشى اتهامها بالعمالة أو بتنفيذ أجندات السفارات، فلأننا نحترم شراكة المواطنة مع الآخرين، لكن هذا لا يعني أن نائباً فاز ببضعة أصوات تفضيلية في منطقته، بات من حقه أن يحشر أنفه بمسألة وجودية يرتبط بها مصير كل لبنان دون أن يكون للجماهير الشعبية رأيها في ما يحصل.
نحن في دولة، الإحصاء السكاني فيها ممنوع، والاستفتاء الشعبي على أي أمر قومي مصيري محظور، وانتخاباتنا النيابية خالية من البرامج وحافلة بالكلام الذي لا يساوي الحبر الذي وثَّقَه، فكيف يحق لحزب حجمه "بيتين وتنُّور" أن يتطاول زعيمه على مقاومة جماهيرها بمئات الآلاف ومن كل الطوائف، أو زعيم حزب تاريخه ملطخ بالعمالة أن يعطي دروساً بالوطنية، أو "نائب نائبة" وصل إلى المجلس النيابي بأصوات لا تتعدى ناخبي ضيعة، أن يُعطى مساحات إعلامية أكبر من حجمه ومن حيثيته.
انتهى زمن "الثغاء" أمام الأمم المتحدة، و"المواء" أمام الجامعة العربية، وجامعات العالم في اعتصامات غير مسبوقة ولم تتحرك الجامعة العربية ولا جامعات العرب، ووحدها البندقية المقاوِمَة لها فعلها، سواء في الداخل الفلسطيني أو جبهات الإسناد والدعم، ولن تنفع البوارج ولا الأساطيل التي تواجه جيوشاً تقليدية في تقويض تحركات المقاومة وعمليات "الذئاب المنفردة".
وفيما العالم كله يهتزُ من الإجرام الصهيوني، لم يهتزّ من "فرقة كوندي رايس في لبنان" حتى بقايا العقل والضمير، ليس بالضرورة لدعم المقاومة كلامياً على الأقل، بل لضبط أنفسهم عن أن يكونوا أدوات تحريض عند استقبال هذا الدبلوماسي ووداع ذاك السفير، والتخفيف من أنشطة "السفاري" لأنها لن تكون مجدية، وبداية انهيار الكيان الصهيوني الخاطىء قد حُسِمت ببندقية مُقاوِمَة.