أقلام الثبات

كتبنا بتاريخ ٢٣ آب ٢٠٢٣ مقالة بعنوان: "شاحنة الكحالة ليست بوسطة عين الرمانة"، وكنا على ثقة، ونكتب اليوم أن سيارة المرحوم باسكال سليمان فشلوا أن يجعلوها تلك البوسطة المشؤومة، ونحن أيضاً على ثقة، مع وجود قاسم مشترك بين الحادثتين؛ في الموقف الأخلاقي والوطني والواعي الى حدود الدهشة، لذوي المرحوم فادي بجاني في حادثة انقلاب شاحنة الكحالة، والموقف النبيل لعائلة المرحوم باسكال سليمان، هذه العائلة التي عبر خطاب السيدة عقيلة الفقيد، بكثير من الإيمان، والإنسانية، والرُقيّ، واجهت القدر المؤلم من جهة، وواجهت مَن احترفوا ذرف دموع التماسيح والرقص على الأضرحة في لبنان، منذ العام ٢٠٠٥ من ساحة الشهداء، مروراً بالكثير من المحطات المأساوية، وصولاً الى كوع الكحالة، وليس انتهاءً بالمأساة الأخيرة في جبيل.

لن نتطرق الى تفاصيل جريمة خطف واغتيال الفقيد باسكال سليمان، لأن القضية بعهدة أيادٍ أمينة لدى الجيش اللبناني، ولنا ثقة بهذا الجيش أكثر مما تتوقع قيادته حتى، مع تسجيل عتب على قضاءٍ باتت تلزمه مظلة الجيش، ليلقي القبض على كل إعلامي "أصفر" وعلى كل ميليشيوي "أزعر"، حاول استغلال حادثة سرقة سيارة، ليُبدي إصراره على أن ما حصل هو جريمة سياسية حتى يثبُت العكس، عبر خطابٍ فئوي تقسيمي، من أعلى هرم ميليشيوي الى قعر القاعدة الشعبية الشعبوية التي بلغت حدود الفلتان المرفوض الواجب قمعه.

تماماً كما فعلوا عندما حصلت حادثة انقلاب الشاحنة على الطريق الدولية في الكحالة، وتقاطروا الى كوع الكحالة لتبنِّي انتساب المرحوم فادي بجاني، كلٌّ الى حزبه، وهددوا وتوعدوا وحفروا عنترياتهم على الزفت، الى أن جاءتهم الكلمة القاطعة كما السيف من عائلة الفقيد بجاني، وكفَّت دموعهم بصفعة كفّ: "لا تستغلوا دماء فقيدنا بزواريب السياسة"، وحصلت الجنازة في اليوم التالي بأهدأ ما يمكن، وباتت الأمور بعهدة أهل المسؤولية والعقول الحكيمة.

هذا مع الأسف ما حاولوه في جبيل، وأول كذبة أطلقوها بعد دقائق من نشر حادثة اختفاء المرحوم باسكال سليمان، أن السلطات الأمنية رصدت جهازه الخليوي في بلدة لاسا، مع ما لبلدة لاسا من حساسية مع بعض الجوار نتيجة خلاف عقاري، ولأن لاسا بلدة مختلطة، ولأنهم يحسبون شيعة لاسا على حزب الله، فمن هنا انطلقوا، واشتعلت محطات التلفزة ومواقع التواصل بكل ما هو باطل، وبكل ما هو اجتهاد، وبكل ما هو إعاقة فكرية ووطنية وأخلاقية وذمم واسعة وسع المدى..

وبدأ بخّ السموم على "السلاح غير الشرعي"، وباتت كل الحوادث؛ من أقصى عكار مروراً بطرابلس وكسروان والمتن وبيروت وزحلة وانتهاء بأقصى الجنوب سببها سلاح حزب الله، ومصائب الوطن والدولة، في انهيار المؤسسات والفساد المُتراكم سببه سلاح حزب الله، وبدَت سيرة المغفور له سليمان التي أشاد بها كل من عرفه، وكأنها في مقلب آخر، وتصريحات أرملته المؤمنة المُتَّزنة كما الصلوات التي لا يفهمها الغوغائيون، الذين تقيأت من تصرفاتهم الناس من الحدث وبعبدا وبيروت وعلى كل طرقات المتن وكسروان قبل أن يصلوا الى جبيل.

لا أحد قدَّر للجيش اللبناني والأجهزة الأمنية سرعة القبض على العصابة المجرمة بين لبنان وسوريا، ولا أحد من هؤلاء الميليشيويين يريد أن يقتنع أن سيارة ترصُد شخصية بهدف الاغتيال السياسي، لا تُقدِم على محاولة سرقة سيارة في منطقة صربا صبيحة يوم الجريمة، ولا تحاوِل قبلها سرقة سيارتين على نفس الطريق التي سلكها المغدور سليمان، وأن حظه السيئ أنه توقَّف، وأنه تشاجر معهم دفاعاً عن نفسه، وحصلت الجريمة.

إننا وسط العقلانية الهادئة التي واجهت بها عائلة المرحوم باسكال سليمان مصابها، والعقلانية نفسها التي التزمت بها عائلة المواطن محمد سرور الذي اغتيل بالتزامن في بيت مري، بترك الأمور للقضاء، لا بُد لنا من التنويه مجدداً بالروح الوطنية لدى الكثيرين في هذا الوطن، في مواجهة دُعاة "الكنتنة" والتقسيم و"الفدرلة"، ونقول لمَن كان يُقدِّم الخطباء في ختام جنازة المرحوم باسكال، عند تقديم السيد سمير جعجع بالقول: "كونوا في السكوت أيها السامعون، من قلعة معراب الى قلعة جبيل"، إن السكوت يُطلب من المؤمنين المسيحيين فقط في القداس عند تلاوة الإنجيل المقدس، وإن تشبيه "قلعة معراب" بقلعة جبيل اعتداءٌ على التاريخ وعلى الحق وعلى كل القِيَم، وحسبنا أن نكتب تاريخ هذا الوطن يوماً، للتمييز بين مَن كانت عينه على الوطن ويده على الزناد لحمايته، وبين مَن عينه على "كانتون" ومن أجل جموحه الشخصي الخائب هو على استعداد في كل لحظة لاستحضار "بوسطة عين الرمانة"، ولن يجني سوى الخيبة.