أقلام الثبات
كل يوم منذ انطلاق عملية "طوفان الاقصى" تتكشف معطيات مذهلة في ظل حرب الابادة على الشعب الفلسطيني، ولاسيما في قطاع غزة، والعالم لا يزال ينظر الى ما يجري بالعيون الاميركية المصابة بعمى الالوان، ولا سيما في الاقطار العربية، وغالبية المعطيات تؤكد بما يدع مجالا للشك ان الكيان الصهيوني في طريقه الى التفجر, دون المقدرة على اسعافه من اي قوة دولية متجبرة, كالولايات المتحدة الاميركية.
ان الرعاية الاميركية فيما تفعله ادارة جو بايدن، مع الاعلان ان اداء حكومة نتنياهو ليس في مصلحة "اسرائيل", لا يبدو ان طريقها او اسلوبها في المراوغة سيعطي الاكل الموعود, في ظل محاولة التلاعب عبر مشروع قرار اميركي ملغوم يصدر عن مجلس الامن الدولي يرمي إلى دفع الى مزيد من اطلاق يد الكيان الصهيوني في الحرب على غزة، اذ ان مشروع القرار اشتمل على خداع موصوف عبر "السعي" لوقف اطلاق، لكن لغم السعي الاميركي يكمن في اطلاق الاسرى "الاسرائيليين" دون التطرق الى الاف المعتقلين والاسرى الفلسطينيين هو ما سبره الثنائي الصيني - الروسي ورفعا البطاقة الحمراء بوجهه (الفيتو) مع تفسير النفاق الاميركي المتوالي فصولا, والمقرون باغداق وعود فارغة للعرب, الذين يركنون ولا يمكنهم الشرح لشعوبهم عن انشراحهم بالوعود التي حتما لن ترى النور .
ليس بناء عليه فقط يمكن استخلاص اي نتيجة بان الولايات المتحدة تدرك فعلا ان قيادات الاحتلال ولا سيما رئيس الوزراء الحالي لا يعرفون مصلحة "اسرائيل" ككيان قابل للاستمرار حتى تصل الولايات المتحدة الى قناعة وخصوصا الطبقة الحاكمة حاليا من الحزب الديمقراطي, بان نتنياهو تحول الى عقبة امام المشروع الاميركي ل"السلام ", وهذه مسألة اخرى في التعارض التكتيكي .
في الواقع لم يعد جوهر القضية هنا, وليس في وقف اطلاق النار , وانما في مصير الكيان ككل في ضوء انهيار الرواية الصهيونية التي تقبلها معظم دول العالم بعد ان سخرت لها الاعلامية ضخمة تمتد من المنشور الى الاعلام المكتوب والمرئي الى السينما والمسرح ,ومنظومة من السياسيين.
ابرز علامات السقوط التكويني الذي عملت عليه الالة الاعلامية هي ان للبشر "اليهود" قيمة غير محدودة، خصوصاً المستوطنين الذين جيء بهم الى "ارض اللبن والعسل "حيث الامن والامان والقيمة والانتاج , وكانت العلامة البارزة في الرواية ان الكيان الصهيوني لا يغامر بحياة اسراه , او جواسيسه , لكن طوفان الاقصى فضح الرواية واكاذيبها من خلال قتل الاسرى على يد جيشهم وبقرار سياسي , بينما المقاومة لا تترك اسراها ابدا ليصبح الشعار مقابل اما نحن لا نترك اسرانا , وانتم تقتلون اسراكم بايديكم، وبالتالي ستدفعون الثمن مزدوجا .
العلامة الثانية البارزة في معادلة الموت, انه لا يوجد في التكوين العسكري والامني والسياسي لدى الكيان, وبالتالي الثقافي العميق الا الاجرام الوحشي , مضافا اليه تعمق الازمة الداخلية والصراع الشرس على السلطة ,مقابل وحدة القوى المقاومة سواء في الميدان المباشر او البعيدة عن خطوط القتال , ما جعل الانجازات اوسع من ان يتصورها المتماهين مع الرواية "الاسرائيلية"، فكيف بالذين ايديهم في النار , والمقصود هنا جيش الاحتلال , وقيادته السياسية , وقد عبر عن ذلك الوزير في المجلس الوزاري الإسرائيلي للشؤون السياسية والأمنية، غدعون ساعر، من خلال توجيهه، انتقادات حادة اللهجة للمجلس الوزاري لإدارة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ("كابينيت الحرب")، بقوله "ليست اسرائيل بحاجة إلى هيئة أركان عامة ثانية"، لأن الحرب على غزة "تراوح مكانها ولا تسير في الاتجاه الصحيح".
العلامة الثالثة، سقوط الهالة الامنية الاسرائيلية رغم القدرات الهائلة التي تتمتع بها على كل المستويات البشرية والتقنية والمالية , مقابل القدرات ليس فقط غير المتناسبة عند المقاومة ,بل وما تحت العادية , باستثناء العقول التي تديرها في حرب الخداع الاستراتيجي , وفي هذا المجال اقرار ساطع عبر عنه الضابط في قوات الاحتياط، د. أيال بينكو، وهو خبير في الاستخبارات والسايبر والأمن القومي، بقوله: "ليس لطيفا قول ذلك، لكنهم قاموا بعمل أفضل منا بكثير".
لقد سعت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" ولا تزال مستمرة , بذهول , إلى إدراك مصدر أي معلومة جُمعت من خلال مجهود حماس الاستخباري، دون فك رموز ذات قيمة , لتقتصر على احتمالات وتقديرات , وايضا على الجبهة مع لبنان , حيث "الغلة" اليومية للمقاومة من خلف خطوط النار تفاجأ العدو كل يوم من خلال استهدافات محددة ,ودقيقة ,وهذا كما هو معروف قمة الفشل لدى اي جهاز استخبارات , حتى ان الباحث الصهيوني في الشأن الفلسطيني في جامعتي تل أبيب ورايخمان، د. ميخائيل ميلشتاين، اقر علانية إن "الاستخبارات العسكرية في حماس هي جهاز متعدد الأبعاد ومسؤول عن ما تنفذه عندنا عدة أجهزة منفصلة عن بعضها. وكل الأمور يتم تركيزها في مكان واحد لدى حماس، جمع معلومات استخباراتية، تجنيد عملاء، حماية معلومات والخدع والقتال على الوعي".
ان المفاجآت اليمنية المتتالية ,وغير المتوقفة عند الصاروخ "كروز" الذي وصل الى ام الرشراش - اي ايلات - متجاوزا كل بوارج اميركا وبريطانيا وحلفهما الاطلسي في البحر الاحمر , وكذلك المراصد والرادارات "الاسرائيلية", شكلت انهاكا استراتيجيا للعقول التقنية الغربية والاسرائيلية التي طالما حيكت حكايات حول عدم مجاراتها
بموازاة ذلك تحاول اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية تغطية الفشل بالحديث مسرب عن انجازات , يتضح انها تخيلية مثل التقرير الذي نشرته "يسرائيل هيوم", وفيه انه بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة في الحرب الحالية، واقتحامه "مجمع الخوادم" الذي أقامته حماس في الأنفاق والاستيلاء على حواسيب موصولة بمجمع الخوادم، "تم اكتشاف الحجم الحقيقي لقدرات حماس في مجال جمع المعلومات الاستخباراتية. وما تم اكتشافه هناك أبقى عناصر الاستخبارات الإسرائيلية في حالة ذهول مطلق"، حسب التقرير. تمكنت حماس من التوغل إلى شبكة كاميرات في إسرائيل والسيطرة عليها، وعلى عناوين بروتوكولات الإنترنت (IP)، وتمكن عناصر حماس من أن يشاهدوا بحرية وبشكل مباشر بثا حيا من بلدات وشوارع وحتى من داخل بيوت. وركزت حماس على "غلاف غزة"، حيث شبكات الكاميرات في المسوكنات كانت واسعة، وبينها كتلك التي ترصد "السياج الأمني "المحيط بالقطاع، ومنشآت أمنية وأخرى حساسة. "ويتضح الآن أن حماس تمكنت من السيطرة على عشرات من هذه الكاميرات قبل 7 أكتوبر، واستخدم مقاتلوها قسما منها أثناء القتال في المستوطنات في الأيام التالية" لهجوم "طوفان الأقصى". كذلك اكتشفت إسرائيل متأخرة قدرات حماس في مجال السايبر، واستخراج معلومات من "إسرائيليين" عموما ومن جنود خصوصا، وكذلك القدرة على زرع تطبيقات تجسس من خلال التوغل إلى هواتفهم.
اذا تم التدقيق في التقرير لا يمكن فهم استعراض الانجاز بالوصول الى خوادم, سيما انه اذا اضطرت اي قوة مقاومة لإخلاء مكان بسبب اي ظرف كان, لا يمكن ان تترك خلفها معلومات قيمة, فهي تعمل على تدميرها اذا كان من المستحيل اصطحابها او نقلها الى مكان آمن, الا اذا كان الهدف ايقاع العدو في موجة هستيرية لارباكه اكثر.
اما العلامة الرابعة, ولها اهمية جدا مؤثرة, وهي تلك المتعلقة بالجيش, واذرعه المتعددة ,فقد طغى في الحرب الدائرة حاليا عنصر التكتم على الخسائر بشكل غير مسبوق ,مع رقابة على النشر, بحيث تخضع كل وسائل الاعلام, بما فيها الدولية الى الرقابة المشددة على النشر, وبالأخص ما يتعلق بالقتلى العسكريين, هروبا من العبء التراكمي, خوفا من انكشاف الخسائر الخفية التي لا يجرؤن على كشف اعدادها وظروفه لأسباب عدة:
1ـــ مدى التأثير المعنوي الكبير على التكوين العسكري والامني, الذي هو بحد ذاته -"الدولة "التي تقودها عصابة قتل، وهي ارقام لا يبدو ان تعويضها بالكفاءة المطلوبة امر سهل التحقيق, والدليل ان تلك الدورات لقادة السرايا. والكتائب لملء الشواغر, والتي تقلصت الى مدة شهرين, بينما البرنامج المقرر مداه سنة ونصف بالاضافة الى اتخاذ قرار بإنشاء لواء جديد للقتال الجبلي (ههاريم) مخصص للجبهة الشمالية - اي الجبهة مع لبنان وسوريا, في ظل التمنع عن التجند في الجيش الاسرائيلي, والتمرد من قبل "الحريديم "على اي قرار حكومي من هذا النوع مهما بلغ التحدي.
2ــ اظهار حجم الفشل ومستواه, امنيا وعسكريا, قياسا الى عدد القتلى في الميدان مقابل الاهداف غير المحققة.
3ــ تغطية الفشل السياسي والدبلوماسي في اخفاء الجرائم ضد الانسانية, من عمليات الابادة الجماعية, الى جرائم الحرب الظاهرة, الى جرائم القتل العمد من خلال استهداف الناس التي تجمعت بناء على دعوات للحصول على مساعدات غذائية , وقصفها واطلاق النار عليهم كاستهداف مباشر .
4ــ عدم السماح بنشر اعداد حالات الفرار من الميدان بسبب الشعور بالقلق من التهديد المتزايد, وكذلك منع اللقاء مع العسكريين في ساحات القتال, سيما من قوات النخبة, بعد انكشاف خضوع الالاف للعلاج النفسي, من رعب الميدان, بموازاة معلومات بان كثيرا من الجنود الذين يزج بهم للقتال في غزة يجبرون على تلقي "حقن" مخدرة, للتغلب على الخوف من القتال.
تلك هي ارهاصات متفاعلة, ومتعاظمة, بغض النظر عن استمرار الحرب الدائرة حاليا, او توقفها بطريقة ما, في اي وقت, اما اعداد المستطاع متواصل حتى دحر.
5ــ يكفي ان يعلن رئيس الاركان هاليفي الاقرار بالفشل الاستراتيجي بعد تقاذف التهم على مدى ستة اشهر: "نعم فشلنا في 7 اكتوبر, وهذه مسؤوليتنا عما جرى, بالتوازي مع لفت وسائل إعلام إسرائيلية الى ان: رئيس الأركان منعزل وصامت وفقد السيطرة على الأرض منذ زمن طويل, ونحن في أخطر فضيحة منذ تأسيس "الجيش" وأخطر فشل منذ تأسيس "إسرائيل".
6ــ اما اللواء المخضرم اسحاق بريك وهو متقاعد من الجيش الاسرائيلي، فدعا للمجاهرة قائلا: "خسرنا الحرب مع حركة حماس في قطاع غزة، والجبهة الداخلية غير مستعدة لحرب إقليمية واسعة". إنه "لا يمكنك الكذب على الكثير من الناس لفترة طويلة". وأن "ما يجري في قطاع غزة وضد حزب الله في لبنان سينفجر في وجوهنا عاجلا أم آجلا، وحينها ستنكشف الحقيقة بكل خفاياها".
تلك هي ارهاصات متفاعلة, ومتعاظمة, بغض النظر عن استمرار الحرب الدائرة حاليا, او توقفها بطريقة ما, في اي وقت, اما اعداد المستطاع متواصل حتى دحر الاحتلال ونهاية الكيان. ووضع حد للنفاق الاميركي الذي بات مفضوحا.