مقالات مختارة
صحيح أن كل صورة ترد اليوم من القطاع هي بمليون كلمة يمكن أن تقال أو تكتب، إلا أن الأرقام والبيانات الإحصائية يبقى لها أهميتها في توصيف حجم معاناة سكان القطاع، والتأكيد على أن لا صورة استثنائية في ظل الأوضاع التي يعيشها سكان القطاع، فكل صورة، وإن كانت لعائلة أو طفلة أو امرأة ما، تشكل انعكاساً لحياة ما يزيد على مليوني فلسطيني يتعرضون للإبادة والمجاعة الصهيونيتين.
وإذا شاهدتم وسط الدمار الرهيب شاباً يحمل بفرح كيس دقيق أو طفلاً يحصل على بعض الحساء، فلا تطمئنوا أن أسرته ستكون بمنأى لأيام عن خطر المجاعة، فالخبز أو بعض الحساء لن يعوضا وحدهما أثر غياب السلع الغذائية الضرورية الأخرى عن مائدة جميع الأسر الفلسطينية تقريباً، وهي سلع زادت أسعارها فيما تبقى من أسواق القطاع إلى أضعاف مضاعفة من جراء محدودية كمياتها المتاحة.
وبحسب بيانات الجهاز الإحصائي الفلسطيني، فقد "سجل الرقم القياسي لأسعار المستهلك في قطاع غزة ارتفاعاً حاداً بلغت نسبته 27.25% خلال شهر شباط الماضي، وذلك مقارنة مع شهر كانون الثاني الماضي، إذ شهدت أسعار السلع الأساسية ارتفاعاً حاداً بسبب استمرار عدوان الاحتلال الاسرائيلي على قطاع غزة".
ومن بين فئات السلع الأساسية التي يجري عادة قياس أسعارها في جميع الدول، نختار منها بعض السلع الغذائية الضرورية للوقوف على نسب ارتفاع أسعارها في محافظات القطاع. مثلاً، تشير البيانات الرسمية إلى أن أسعار الخضراوات الطازجة ارتفعت في شهر شباط الماضي بنسبة 36.03% مقارنة بشهر كانون الثاني. وكذلك، ارتفعت أسعار الذرة بنسبة 33.66%، وأغذية الأطفال بنسبة 33.33%، وبدائل السكر وسكريات أخرى بنسبة 149.12%، والبيض بنسبة 86.05%، واللحوم الطازجة بنسبة 36.89%، والزيوت النباتية بنسبة 15.19%، والفواكه الطازجة بنسبة 12.39%، والأدوية بنسبة 10.61%، والخبز بنسبة 50.99%، والسميد بنسبة 3.81%، والخضراوات المعلبة بنسبة 2.38%.
الوصول والحصول
مع أن المنظمات الأممية لا تزال تتريث في إعلان المجاعة في قطاع غزة لأسباب تبدو سياسية، إلا أن معظم سكان القطاع دخلوا عملياً في دائرة الجوع الشديد والمفضي بشكل متسارع إلى الموت، وما سجل من وفيات إلى الآن نتيجة الجوع لا يعكس حقيقة ما تعانيه جميع الأسر من جراء ذلك، ولا سيما أن معظمها محاصر وغير قادر على الوصول إلى ما تبقى من مراكز صحية. ولذلك، فإن حصر وفيات الجوع وانعكاساته الصحية على الفلسطينيين بشكل دقيق غير متاح حالياً.
أدى العدوان الإسرائيلي على القطاع، والذي لا يزال مستمراً، إلى شيوع الجوع بين سكان القطاع نتيجة انعكاس ذلك العدوان على أمرين هما:
الأول يتمثل في عدم قدرة سكان القطاع على الوصول إلى الغذاء، وهذا ينشأ بفعل عاملين أساسيين: الأول هو العامل الأمني الذي تسبب به العدوان الإسرائيلي عبر الاستهداف الممنهج والمباشر للأحياء السكنية والأسواق والمستشفيات وغيرها من المرافق الخدمية، والذي حال دون تمكن الفلسطينيين من الوصول إلى أماكن توفر الغذاء كمناطق إنتاج أو توزيع أو بيع... والمجازر المرتكبة، سواء عبر القصف المباشر للأسواق أو استهداف الحشود التي تتجمع انتظاراً لوصول بعض المساعدات الشحيحة إلى شمال القطاع، تؤكد تعمد الاحتلال منع وصول الفلسطينيين إلى أماكن توفر الغذاء.
أما العامل الثاني، فهو العامل القسري المتمثل في الحصار الإسرائيلي الشامل المفروض على القطاع منذ العام 2007، والذي وصل إلى درجة الخنق في السابع من أكتوبر الماضي، من قطاع المياه والاتصالات والكهرباء إلى منع دخول المساعدات وتدفق الغذاء بين مدن القطاع، فالتدمير الممنهج للمنشآت الإنتاجية والحقول الزراعية المنتجة للغذاء داخل القطاع ومخازن المؤسسات الأممية من الغذاء وقطع الطرق وما إلى ذلك.
الأمر الثاني يتعلق بعدم تمكن سكان القطاع من الحصول على الغذاء. وحتى لو تمكن سكان القطاع من التغلب على العامل الأمني بمختلف تجلياته والمخاطرة بحياتهم والوصول تالياً إلى أماكن توفر الغذاء، فإن حصولهم على بعض السلع الغذائية يبقى بعيد المنال، إما لمحدودية السلع الغذائية التي تقدمها المنظمات الأممية، والتي تقل كثيراً عما هو مطلوب لتلبية احتياجات جميع المحتاجين، وإما لأن أسعار المواد الغذائية مرتفعة إلى درجة يعجز معها ما هو متاح في جيوب البعض من الفلسطينيين، والسبب هو شح المواد والسلع الغذائية في محافظات القطاع، والناجم عن الحصار الإسرائيلي ومنعه دخول المساعدات الأممية والدولية.
ويظهر متوسط أسعار السلع الغذائية وغير الغذائية في أسواق القطاع خلال شهر شباط الماضي ارتفاعاً خيالياً، وهو ما يجعل الغالبية العظمى لسكان القطاع عاجزة عن مجاراتها، وخصوصاً أن أكثر من 173 ألف عامل فقدوا وظائفهم ومصادر دخلهم بفعل العدوان المستمر.
ووفقاً لبعض الأسعار المستقاة من تقرير جهاز الإحصاء الفلسطيني والمسجلة كما يبدو في شهر شباط الماضي (تم تحويل القيمة من الشيكل إلى الدولار وفقاً لسعر الصرف)، فقد بلغ مثلاً متوسط سعر مادة البندورة البلاستيكية 1.8 دولار للكيلوغرام الواحد، والكوسا 4 دولارات، والباذنجان 3.7 دولار، والبازلاء 8.1 دولارات، والسكر 12.6 دولاراً، والبيض 27 دولاراً، وربطة خبز 2.7 دولار، ولحم العجل 34.5 دولاراً، ولحم الغنم 38.3 دولاراً، في حين أن لحوم الدجاج مفقودة تماماً من القطاع، بحسب المعلومات الرسمية. كما أن سعر علبة حبوب السيريلاك الخاصة بالأطفال وصل إلى أكثر من 11.3 دولاراً، في حين أن الأسرة التي تفكر في اقتناء أسطوانة غاز عليها أن تدفع 23.7 دولاراً، هذا إذا وجدت من يبيعها.
ويمكن لأي مواطن عربي أن يعكس هذه الأسعار وفقاً لسعر صرف العملة الوطنية الخاصة ببلده، وليكتشف بذلك حجم معاناة ومأساة وقهر أي رب أسرة في القطاع، والذي انخفضت فيه القوة الشرائية للمواطنين بتراكم مقداره 53% خلال 5 أشهر من العدوان الإسرائيلي على القطاع، فيما سجل شهر شباط 2024 انخفاضاً قدره 21% في القوة الشرائية مقارنة بشهر كانون الثاني 2024.
الجوع من قبل
انعدام الأمن الغذائي وصولاً إلى مرحلة الجوع لم يظهر فقط مع العدوان الحالي، وإن كانت مساحته قد أصبحت تغطي جميع محافظات ومدن القطاع وشرائحه الاجتماعية، فالبيانات الإحصائية الأممية الصادرة قبل السابع من أكتوبر الماضي كانت تحذر من خطورة الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في الأراضي المحتلة، وفي قطاع غزة تحديداً، الذي يتعرض لحصار شديد منذ العام 2007.
تشير تلك البيانات إلى أن الفقر كان يتهدد نحو 59.4% من سكان القطاع، فيما كان انعدام الأمن الغذائي يتربص بنحو 63% من السكان، وذلك من جراء انهيار جميع القطاعات الإنتاجية والخدمية والبنى التحتية، فكيف الحال مع عدوان يستهدف الحجر والبشر، وكل شجرة ومنشأة وطريق، ويوقف دخول ما يزيد على 500 شاحنة مساعدات كانت تدخل قبل السابع من أكتوبر إلى القطاع؟
سلاح التجويع هو نفسه الذي لجأت إليه الإدارات الأميركية في مواجهة الشعوب والحكومات المصنفة على أنها "معادية" لها. لذلك، لم يكن مستغرباً أن تصرح الخارجية الأميركية بأنها لم تجد أدلة قاطعة على استخدام "إسرائيل" للتجويع كسلاح في حربها على قطاع غزة، إذ ليس هناك من يدين نفسه.
زياد غصن ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً