مقالات مختارة
ما تشهده غزة من إبادة وقتل وتجويع وحصار ليس جديداً. إعادة فتح صفحات الماضي تؤكد ببساطة أن لا شيء تغيّر. لطالما تمنّى الإسرائيليون أن تختفي غزة عن الخارطة. بن غوريون كان أول من عبّر عن رغبته بأن تغرق والقضية الفلسطينية كلها في البحر. الرغبة ذاتها عاد ليطلقها رابين في العام 1993: "أتمنى أن أستيقظ ذات يوم من النوم فأرى غزة وقد ابتلعها البحر".
أسباب عديدة أدت إلى تحويل غزة إلى كابوس في العقل الإسرائيلي وإلى الحيّز المكاني الذي تفشل فيه المشاريع والأهداف الإسرائيلية.
الاطلاع على ما كتبه الإسرائيليون عن غزة يشير إلى أنهم يدركون مكامن القوة الغزاوية. الشاعر الإسرائيلي اليميني الحاي سلومون أصاب بتوصيفه. تشكّل غزة برأيه "قلب القضية الفلسطينية".
ويضيف في مقالة له أنّ "لاجئي غزة هم من صنعوا عمليات الفدائيين في الخمسينيات، ومن جباليا انطلقت الانتفاضة الأولى التي مثّلت نقطة الذروة الفلسطينية، ومنها خرجت عائلة ياسر عرفات وخرج مؤسسو حماس".
وعلى الرغم من إدراك الإسرائيليين لأهمية هذه البقعة الجغرافية، التي لا تزيد مساحتها على 360 كيلومتراً مربعاً، في الوجدان والتاريخ الفلسطينيين إلا أنهم يستمرون بتكرار الأساليب الإجرامية ذاتها فيحصدون بالتالي الفشل نفسه.
جريمة الحصار مثلاً ليست جديدة على أهل غزة. فرضت "إسرائيل" الحصار على القطاع لعامين متتاليين بعد احتلاله في العام 1967 ثم عادت الى إغلاقه في العام 1991.
أما الحصار الأطول فقد بدأ في العام 2007 ولا يزال مستمراً حتى الان. خلال هذه الفترة الطويلة عانى أهل القطاع من نقص فادح في الغذاء والدواء والوقود والكهرباء ومواد البناء. هذا الواقع دفع كثيرين إلى وصف القطاع بالسجن الكبير.
جون دوغارد المقرّر الخاص للجنة حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة في العام 2009 أحد هؤلاء. قال المسؤول الأممي: "إن غزة أكثر مناطق العالم اكتظاظاً بالسكان، هي عبارة عن سجن وإسرائيل هي السجّان الذي ألقى بمفتاح السجن بعيداً".
جيمي كارتر أدلى بدلوه أيضاً في الاتجاه نفسه. كتب الرئيس الأميركي الأسبق بعد زيارة قام بها إلى غزة في العام 2009، نصاً يصف فيه غزة بالسجن الكبير.
الرئيس الذي أطلق بعد خروجه من البيت الأبيض الكثير من المواقف غير المتجانسة مع سلوكه أثناء توليه سدة الرئاسة كتب حرفياً: "إن العالم يشهد الآن جريمة بشعة في حقّ الإنسانية على أرض غزة حيث يعيش 1.5 مليون إنسان داخل سجن كبير، ولا سبيل أمامهم للخروج سواء بحراً أو جواً أو براً".
ويضيف "أنّ القنابل والصواريخ الإسرائيلية تضرب بشكل دوري منتظم هذه المنطقة المعزولة المحاصرة"، ويرى كارتر "أن إسرائيل بدأت في تصعيد إساءاتها البالغة واضطهادها للفلسطينيين من أهل غزة على نحو غير مسبوق وبدعم من الولايات المتحدة، لأن مرشحين سياسيين يمثّلون حماس فازوا بأغلبية المقاعد في برلمان السلطة الفلسطينية في العام 2006، ويضيف "أنه عقاب جماعيّ وحشيّ لأهل المنطقة بالكامل".
هذا العقاب الجماعي تضمّن، اعتماد جريمة التجويع. إلا أن "إسرائيل" تفوّقت خلال الحرب الحالية على نفسها في هذا المجال. تشير التقارير إلى أن العالم لم يشهد منذ الحرب العالمية الثانية مجاعة سريعة وكاملة للمدنيين كما يحدث في غزة عن سابق إصرار وتصميم إسرائيليّين.
الحصار والتجويع كانا الوجه الآخر للحروب المتتالية التي شنتها "إسرائيل" على القطاع الأكثر اكتظاظاً في العالم. خاضت غزة سبع حروب في أقل من 15 عاماً. في العام 2008 هدفت الحرب الإسرائيلية إلى إنهاء حكم حماس والقضاء على المقاومة ووقف الصواريخ وتحرير أسيرها شاليط. الأهداف نفسها أطلقتها "إسرائيل" في حرب الـ 2012، أما في العام 2014 فتمت إضافة هدف تدمير شبكة أنفاق المقاومة، إلا أن الفشل الإسرائيلي تكرّر كما في الأعوام 2019 و2021، وتكرّر خروج غزة أقوى وأشدّ بأساً وخبرة بعد كلّ حرب.
أما جريمة التهجير التي ضجّ بها العالم بالتوازي مع تحرّك آلة القتل والتدمير الإسرائيلية في الحرب الحالية فليست جديدة. سبق لـ "إسرائيل" أن لوّحت بها ودفعت بكلّ الأساليب الممكنة إلى تنفيذها. يوضح المؤرخ الإسرائيلي عمري شيفر رفيف مخططات الترانسفير التي أعقبت احتلال عام 1967، ويشرح كيف أن "إسرائيل" سعت إلى تقليل عدد الفلسطينيين في غزة وشجّعت هجرتهم شرقاً من خلال عدم تحسين الأوضاع المعيشية في القطاع، كما منحت هبات اقتصادية للراغبين في الهجرة إلى الضفة الغربية ومن هناك إلى الأردن.
ويشير رفيف إلى الاتفاق الذي عقدته "تل أبيب" مع بارغواي والذي ينص على استيعاب 50 ألف فلسطيني من غزة، إلا أنّ المشروع فشل هو الآخر بحسب المؤرخ الإسرائيلي.
فشل إضافي كان من نصيب الإسرائيليين خلال تاريخهم الطويل مع غزة. هدف إزالة حماس من الخريطة شكّل لازمة عند الإسرائيليين منذ العام 2005. طوال هذا الوقت، يكاد لا يخلو أي تصريح إسرائيلي حول غزة من هذه اللازمة. ومن أجل تحقيقه لم تتردّد "إسرائيل" في ارتكاب المجازر بحقّ الحاضنة الشعبية للمقاومة وصولاً إلى الإبادة الجماعية.
استخدمت "تل أبيب" أيضاً كلّ الاستراتيجيات العسكرية في العالم. وحاكت ما مارسته الولايات المتحدة الأميركية من صدمة وترويع في العراق وأفغانستان، واستغلّت المواعيد الانتخابية الأميركية، واعتبرت أن إزالة حماس مقدّمة ضرورية للتسوية أو لتصفية القضية الفلسطينية. لا يختلف حول هذه المسألة أيّ من المكوّنات الإسرائيلية فتسيبي ليفني التي كانت رئيسة حزب العمل في العام 2009 أعلنت بكل وضوح عن سعيها للقضاء على حماس. وقد علّقت صحيفة الغاردين البريطانية حينها على تمنيات ليفني التي كانت تتولى وزارة الخارجية آنذاك قائلة "إذا كانت رئيسة حزب العمل تظن أن تمهيد الطريق أمام إنشاء دولة فلسطينية معتدلة يكون عبر التصفية الجسدية لقيادة نصف الشعب الفلسطيني فهي ببساطة مخطئة".
نتنياهو أيضاً مخطئ لأنه يكرّر ما تمّ تجريبه سابقاً من قبل من سبقوه في الحكم. وهو مخطئ أيضاً عندما يتجاهل الخلاصات التي توصّل إليها أسلافه وتحديداً رئيس الحكومة الإسرائيلية المفضّل لديه بن غوريون. فقد قال أوّل رئيس حكومة في "إسرائيل" في العام 1948 "لو غزونا غزة ألف مرة فإنها لن تخضع".
يبدو أن لدى غزة قدرة خارقة على إعادة بعث وإحياء القضية الفلسطينية من جهة، وعلى إذلال العدو وإلحاق الهزيمة به من جهة أخرى، ومع طوفان الأقصى أبدعت غزة في ترجمة قدراتها هذه.
بثينة عليق ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً